قبل أيام، وتحديدًا يوم الخميس 8 تموز/ يوليو الحالي، احتفلت فرنسا ومعها العالم بمرور قرن على ولادة الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران، أحد منظري “الفكر المركب” البارزين خلال العقود الأخيرة. إدغار موران، المفكر اللامع، والمنظر ذو النزعة الإنسانية، هو أيضًا مدير أبحاث فخري في المركز الوطني للبحث العلمي. أقامت له اليونسكو احتفالية كبرى بمناسبة بلوغه مائة عام بالتمام والكمال، واستقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، بحضور مائة ضيف، إلى جانب احتفالات أخرى وتكريمات في أكثر من مكان داخل فرنسا وخارجها، ما يعكس مكانة الرجل العظيمة وتأثيره الواسع في الفكر المعاصر.
في هذا الحوار المطول، الذي نشر حصريًا في يوم الاحتفال بعيد ميلاده، يستخلص إدغار موران “دروس قرن من الحياة” (عنوان كتابه الأخير)، ويتذكر دخوله إلى المقاومة عندما تجاوز بالكاد سن العشرين، في عام 1941. وفيه يكشف عن قلقه البالغ من صعود وانتشار النزعات الأنانية والقومية، ومن هذه المجتمعات التي صارت تنغلق على نفسها أكثر فأكثر. لكنه، في نهاية المطاف، يحافظ على تفاؤل منطقي، ويدعو الشباب إلى “الوقوف إلى جانب كل القوى الإيجابية ومحاربة كل قوى الدمار”.
أجرى الحوار لوران سينيشال، ونشر في موقع “فرانس أنفو” يوم 8 تموز/ يوليو 2021.
(ترجمة نجيب مبارك)
(*) أنت عالم اجتماع وفيلسوف، وأيضًا مدير أبحاث فخري في المركز الوطني للبحث العلمي، وعضو سابق في المقاومة. يمكن تقديمك للناس بطرق مختلفة. هل يناسبك لقب المفكر أم تفضل لقب “الإنساني” (ذو النزعة الإنسانية)؟
أكره أن أُحصر في بطاقة تعريف واحدة. لذا إذا اخترتَ لي خمس بطاقات أو ستًا، فلا بأس بذلك!
(*) في كل الأحوال، بلغتَ من العمر مائة عام في الثامن من هذا الشهر تموز (يوليو). كيف احتفلت بهذا الحدث؟ لقد استقبلتَ في قصر الإليزيه على وجه الخصوص.
نعم. أُقيمت لي أيضًا بالفعل احتفالية في اليونسكو. ونُظمت احتفالية أخرى في مقر بلدية باريس. ثم هناك حفلة عائلية مع أبنائي، وحفلة في أفينيون. سيل من الاحتفالات كما ترى، لكن هذا يحدث فقط كل مائة عام!
(*) 100 عام هي، على أي حال، فرصة لتقييم الحصيلة بطريقة ما. هذا ما تقدمه في كتابك “دروس قرن من الحياة” الذي نشرته مؤخرًا دار دينول. هل هذا العمل سيرة ذاتية، أم دراسة؟
لا، إنه ليس سيرة ذاتية. هناك عناصر سيرية لتنوير القارئ حول الدروس التي تعلمتها من حياتي في مجالات مختلفة. لنقل إن الكتاب هو دراسة.
(*) عشتَ حياة غنية، مع أنك بدأتها بشكل سيء. حاولت والدتك إجهاض حملها بك، ثم وُلدتَ بحبل سري ملتف حول رقبتك. عانيت من صدمة وفاة والدتك عندما كان عمرك 10 سنوات فقط. هل استمديتَ القوة من كل هذه الأحداث الصادمة لتعيش طويلًا؟
ربما اكتسبتُ منها روح المقاومة منذ كنت جنينًا، حين أرادوا القيام بعملية الإجهاض. وقد يكون الأمر كذلك بعد وفاة والدتي، فقد كنت أعاني من مرض غريب. تعرضت من جديد لغزو قوى الموت، لكن جسدي قاوم. ربما لعبت جميع هذه الظروف دورًا. ولكن هناك أيضًا حقيقة أنني كنت الطفل الأوحد. أصيبت والدتي بمرض في القلب ولم تستطع إنجاب طفل آخر. لذلك كانت بيننا علاقة حب كبيرة ومتبادلة. وهذا الهروب من عذابي الخاص جعلني أكتشف الواقع من خلال الخيال. شاهدت أفلامًا عن حرب عام 1914 كشفت لي وجه الحرب. كما شاهدت أفلامًا عن المجتمع. كانت الروايات والأفلام بالنسبة لي معلِّمين أكثر أهمية حتى من المدرسة.
(*) وردت في حديثك كلمة “مقاومة”. كان عمرك 21 عامًا عندما انضممت إلى المقاومة. قال إيمانويل ماكرون: “من الصعب أن تبلغ 20 عامًا من العمر في 2020”. هل تجد أيضًا أن فترتنا هذه صعبة، أنت الذي عشت أهوال الحرب العالمية الثانية؟
هناك حالة من الهشاشة ليست متماثلة على الإطلاق. لكنني أعتقد أن الشدائد أيضًا هي التي يجب أن تحفز المرء. كانت المقاومة في الأساس تتشكل من الشباب: تراوحت أعمار قادتنا ما بين 24 و 28 سنة. وكانت المقاومة أيضًا حركة عبَّر من خلالها الشباب عن تطلعاتهم وتمردهم. أعتقد أن على الشباب التعبير عن تطلعاتهم وثوراتهم في الوقت نفسه، كما فعلنا نحن. اليوم، لم تعد هذه هي القضية الأولى. كنا ندافع عن الوطن، وحتى على نطاق أوسع، كانت الإنسانية معرضة للخطر من طرف القوى الاستبدادية. لكن اليوم، كوكب الأرض هو المهدَّد. ليس عالم الحيوان والنبات فقط. بل نحن البشر، بسبب التلوث والزراعة الصناعية. نواجه ألف تهديد بين صراع وتعصب وانغلاق على النفس. هناك قضايا رائعة جدًا تهمّ الشباب، مثل حماية كوكب الأرض، والدفاع عن البشرية، أي النزعة الإنسانية. يمكن أن نشير إلى الصغيرة غريتا ثونبرج، بالإضافة إلى شباب آخرين، وكلهم يشعرون بذلك. أعتقد أننا نحتاج دائمًا إلى التعبئة من أجل هدف مشترك، ومن أجل المجموعة البشرية. لا يمكن لمرء تحقيق ذاته بواسطة الانغلاق داخل أنانيته، أو الانغماس في حياته المهنية. يجب علينا أيضًا المشاركة في الإنسانية. وهذا أحد الأسباب، حسبما أعتقد، التي أبقتني في حالة تأهب حتى بلغت هذا العمر.
(*) غالبًا ما نقارن بين فرنسا اليوم وفرنسا الثلاثينيات، مع هذا الارتفاع في العنف، وهذا الانسحاب إلى الذات. هل لفت انتباهك هذا التشابه أيضًا؟
أرى هذا التشابه على مستوى معين. لقد كانت فترة من المخاطر المتزايدة التي عشناها تقريبًا مثل السائرين نيامًا، دون أن ندرك ذلك. لكن نوع الخطر اليوم لم يعد هو نفسه كما في السابق. في ذلك الوقت، كانت ألمانيا المسحورة بهتلر، من خلال مفهوم التفوق الآري، الذي خطط للسيطرة على كل أوروبا، بمساحتها الحيوية، واستعباد العالم السلافي. كان التهديد من ألمانيا النازية هو الخطر الرئيسي. أما اليوم، فهناك المزيد والكثير من المخاطر. لدينا خطر نووي. لدينا الخطر الاقتصادي، وخطر هيمنة المال في كل مكان. لدينا أزمات الديمقراطية، كما عشناها في ذلك الوقت، وهي اليوم بنفس الدرجة من الخطورة. إذًا، هناك سمات متشابهة، لكن هناك أيضًا سمات مختلفة جدًا. وفوق كل شيء، يغيب لدينا وعي واضح بأننا نسير نحو الهاوية. ما أقوله ليس قدريًا. كثيرا ما أقتبس كلمات الشاعر هولدرلين الذي قال “حيثما ينمو الخطر ينمو الخلاص أيضًا”. مع ذلك، أعتقد أنه لا يزال هناك أمل.
(*) أنت مبتكر المفهوم الفلسفي “الفكر المركَّب”. ألا ترى أنه توجد أحيانًا طرق مختصرة يمكن اللجوء إليها، على سبيل المثال، عندما نسمع أننا نعيش فترة ديكتاتورية في فرنسا اليوم؟ ألا تشعر أن طرفًا ما في البلاد يذهب بعيدًا جدًا، ويختزل الكثير من الأوضاع؟
لم نصل إلى هذا الحدّ بعد، لكننا نرى أننا نعيش تحت التهديد. هنا أيضًا، ثمة تهديد مستقبلي. بعد سنوات قليلة، وحتى لو تعلق الأمر بهذه الانتخابات الرئاسية، لا أحد يعرف ما الذي سيحدث. نحن نعيش حالة من عدم اليقين التام.
(*) كتبتَ مرة في عمود نشرته صحيفة “لوموند”: “يجب أن نفهم أن كلّ ما يحرّر تقنيًا وماديًا يمكن في نفس الوقت أن يستعبد”. أنت تتحدث عن الأداة الأولى التي أصبحت سلاحًا بسرعة، عن مخاطر التكنولوجيا الحديثة وخاصة المراقبة بالفيديو والخوارزميات. هل هذه مخاطر فورية؟
إنها أحد الأخطار في هذا المجتمع، دعونا نسميها الشمولية الجديدة، التي يمكن أن تترسخ بقوة. لكن يجب ألا ننسى المحيط الحيوي الذي سيزيد كل هذا سوءًا إذا استمرت أزمة المناخ. يجب ألا ننسى أن التعصب منتشر في كل مكان. ما يذهلني كثيرًا هو أننا في هذا الوقت بالذات صرنا، نحن معشر البشر، جماعة تواجه مصيرًا واحدًا – والوباء دليل على ذلك، لقد مررنا جميعًا بنفس الشيء، من نيوزيلندا إلى الصين إلى أوروبا. لقد عانينا من نفس المخاطر الجسدية والشخصية والاجتماعية والسياسية.
أنا لست ضد الأمة، بل على العكس. فكرتي عن الأرض- الوطن تشمل الأوطان والأمم دون الرغبة في تفكيكها. لكن هذا الوعي غير موجود. يمكن أن يأتي ويتطور. لكنه ليس موجودًا الآن.
(*) كيف عشت، على المستوى الفكري، الحجر الصحي، أي وضعية منع السكان من الخروج والتنقل؟ بالنسبة لك، هل للصحة الأولوية على الاقتصاد؟ أم على العكس، ترى أننا في المقابل حجرنا على الحريات؟
الفكر المركب هو رؤية تناقض الأشياء. أستطيع أن أرى بوضوح الرغبة في تحقيق سياسة صحية، لكنها ربما لم تكن كافية تمامًا لهذا الوضع. الحجر الصحي كانت له انعكاسات مفيدة على البعض، وتسبب كذلك بمآس للبعض الآخر. إنه وضع متناقض للغاية. لكن ما أعتقده هو أن هذا الفيروس لم يتم التفكير فيه جيدًا. ما زلنا في مغامرة غير معروفة وخطيرة وأعتقد أنه يجب القيام بإعادة تفكير سياسية وصحية كبيرة اليوم.
(*) عمرك 100 عام. من الواضح، في مثل هذا العمر، أن تبدأ بالتفكير في النهاية. أكسيل كان، الذي وافته المنية يوم الثلاثاء 6 يوليو / تموز، كاد يؤرخ لنهاية حياته يومًا بيوم تقريبًا. هل أعددت شيئًا مماثلًا؟
هناك فرق كبير بيني وبين أكسيل كان، الذي كان يعلم أنه مصاب بسرطان قاتل. حتى الآن، لم أتعرض لإصابات، ولا يمكنني أن أتحمل نفس موقف أكسيل كان. لا زلت أمتلك، على الأقل من الناحية العقلية، قوى الحياة التي تمنحني الرغبات والمشاريع والرغبات والملذات. بالطبع، أنا أعيش بأسلوب أقل حرية مما كنت عليه في الماضي. فقد ضعف سمعي. ولم تعد عيناي تقرآن الأشياء المجهرية. ولم يعد بإمكان ساقي الركض. لذا، إذا شئت، أنا أعرف أن الموت يمكن أن يأتي في أي وقت، وأعلم أنني قد أنام ذات ليلة ولا أستيقظ بعدها. لكن هذا قدر الإنسان.
(*) حارب أكسيل كان بقوة من أجل أن يعيش نهاية حياته بكرامة. هل هي المعركة نفسها التي يمكن أن تخوضها؟
أتفهم جيدًا هذه الحاجة لتفادي المعاناة الأكثر رعبًا بالنسبة للأشخاص الذين يشعرون أنهم محكومون بالموت. لكن الأطباء يواجهون تناقضًا أخلاقيًا. من جهة، قسم أبقراط الذي يأمرهم بإطالة العمر قدر الإمكان، ومن جهة أخرى، يحرضهم جزء من الإنسانية: دعونا نوقف معاناة هذا المسكين. أنا أؤيد وجهة النظر هذه، لكنني أعلم أن هناك حالات نادرة يرقد معها أشخاص أشقياء في غيبوبة طويلة، تبدو بلا علاج، ثم فجأة، بعد بضع سنوات، يستيقظون.
(*) هل ترى أننا بحاجة إلى تغيير قانون أخلاقيات الطب البيولوجي؟
يجب أن نفكر في تناقضات أخلاقيات الطب البيولوجي. نحن نرى أن علم الوراثة يسمح بالتلاعب الذي قد يكون خطيرًا، وفي نفس الوقت يقوم بتدخلات يمكن أن تكون مفيدة للغاية. يجب أن نتذكر أننا في هذا المجال غالبًا ما نتعامل مع واجبات متناقضة. لذلك، قبل كل شيء، يجب أن نضع قانونًا حسب تعقيد الأشياء، وليس بشكل مبسط.
(*) نجد دائمًا هذا التناقض و”الفكر المركب”. يمكننا أن نرى ذلك أيضًا في قضية ميلا المتعلقة بحرية التعبير هذه المرة. أتخيل أنك توافق على أنه يجب علينا الدفاع عن حرية التعبير.
ليس المسألة أن أوافق أم لا، إنها قضية يجب الدفاع عنها دائمًا!
(*) لكن إلى أي مدى؟ هل يمكن لفتاة في مدرسة ثانوية أن تهين أحد الأديان عبر الإنترنت؟ وهل يمكن ردًا على ذلك أن يدعو بعض الناس إلى قتلها؟ هل كانت العدالة موفقة في الحكم على الذين هددوا ميلا بالسجن لمدة تتراوح بين 4 و 6 أشهر؟
أعتقد أننا، هنا أيضًا، بصدد تناقض أخلاقي. أنا أؤيد حرية التعبير الكاملة، لكنني بالطبع أعتقد أيضًا أنه بالنسبة لقضية الرسوم الكاريكاتورية المعروفة، لا يمكن اعتبارها قذرة من طرف الجهاديين فحسب، بل يمكن أن تسيء أيضًا إلى المسلمين الأتقياء. لذلك، لم أكن موافًقا على الرقابة، لكنني كنت أتمنى من الصحافيين أن يكون لديهم شعور بالمسؤولية وتعقيد الوضع. هذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار. الأمر متروك للصحافيين لمعرفة متى يتجنبون شيئًا مسيئًا. على سبيل المثال، ولتجنب أي مقارنة مع الأمور الراهنة، أي الإسلام أو المسيحية، في أميركا، حين يدخل الغزاة البيض إلى غابات الهنود المقدسة، باعتبارها أراضي أجداد هؤلاء، فيجب إدانة هذا التدنيس لمقدسات الهنود. من الضروري التفكير في كل حالة بشكل مستقل، وليس اجترار أفكار مجردة وعامة.
(*) لقد تحدثنا عن كثير من الأشياء المظلمة راهنا وماضيا. هل ترمق بصيص أمل في عيد ميلادك المائة؟ هل ترى سماء زرقاء محتملة في المستقبل؟
أولًا، أعلم أنه لا يوجد شيء غير قابل للإصلاح. لسوء الحظ، الديمقراطية ليست أمرًا لا رجعة فيه، ولكن الديكتاتورية أيضًا ليست قدرا محتوما. عشنا أوقاتا مظلمة مثل الاحتلال حيث فقدنا الأمل لسنوات، حتى وقعت معجزة الدفاع عن موسكو ودخول الولايات المتحدة الحرب. لذا، فإن ما هو غير محتمل يحدث في التاريخ. وتقع أحداث سعيدة. أحيانًا يكون لها معنى محدود فقط، لكنه يظل مهمًّا. خذ على سبيل المثال البابا فرانسيس. إنه أول بابا منذ قرون يعود إلى مبادئ الإنجيل ويصبح مدركًا لما يهدد الأرض من مخاطر وللفقر والبؤس البشري. لم يكن متوقعا لهذا البابا أن يخلف بابا آخر ظلّ منغلقًا ورجعيًا للغاية.
في العمق، هناك دائمًا صراع بين ما يمكن أن نطلق عليه قوى الاتحاد، والتشارك، والصداقة إيروس، وبين قوى الدمار المضادة والموت، ثاناتوس. إنه صراع قديم منذ نشأة الكون، حيث تلتقي الذرات وتدمر النجوم بعضها البعض، ثم تلتهمها الثقوب السوداء. نجد الاتحاد والموت في كل مكان. نجده في الطبيعة المادية، وفي العالم البشري. أقول للناس وللشباب: اصطفوا إلى جانب القوى الإيجابية، قوى الاتحاد والتشارك والمحبة، وحاربوا كل قوى الدمار والكراهية والازدراء.
(ضفة ثالثة)