إبراهيم اليوسف في “جمهورية الكلب”* إشكالية الرواية وتقنياتها

0

أنور بدر

مجلة أوراق العدد 13

الملف

يَشي إبراهيم اليوسف بشيء من السياسة في عنوان روايته “جمهورية الكلب”، من خلال نسبة الجمهورية للكلب على طريقة الأنظمة الاستبدادية في مجتمعاتنا، مُؤكّداً هذا الالتباس في العتبة النصية الأولى التي تمنى فيها على أحفاده ألا يقولوا: لَكْم كان جدُّنا ديكتاتوراً!

مع أن الرواية، وبعيدا عن الالتباس السابق، فيها شيء كثير من السياسة، لكن الرواية وإشكالية الحدث فيها تأخذنا إلى عولم بعيدة عن ذلك القياس، وتحديداً في العتبات النصية اللاحقة والتي بلغت خمس نصوص أو مقتطفات، متباينة في مصادرها ودلالاتها، أكّد الكاتب من خلالها أن المقصود هو الكلب كجنس حيوان محدّد ومعرّف، مضيفاً في العتبة الأخيرة حديثين نبويّين رواهما أبو هريرة عن رسول الله كمدخل أو كحامل لإشكالية الرواية، عبر موضوعة جزئية قد لا يتوقف عندها كثيرون، حيث نجد في الثقافات الغربية أهمية استثنائية لتربية الحيوانات الأليفة، وبشكل خاص الكلب الذي يأخذ مكانته بعد الطفل والمرأة في سلّم الأولويات أو الاهتمامات لديهم، مقابل المنظور الديني في مجتمعاتنا الشرقية الذي ينطلق من مفهوم الطهارة والنجاسة وبالتالي الحلال والحرام، كما نفهم من أحاديث أبو هريرة، وهي تعابير تنتمي بداهة للقاموس الديني، دون أن نعرف لها سنداً قويا كحديث نبوي، ودون أن نعرف مصدراً علميّاً للمعلومة، مع التأكيد أن أبو هريرة راوي الحديثين كنيَّ بهذا اللقب لهرة كانت لصيقة به دوما، لكنه خص النجاسة بالكلب فقط دوناً عن باقي الحيوانات الأليفة!

هذه الإشكالية كما عاشها الراوي “آلان نقشبندي” في هذا النص، تبدو في المستوى الأول للقراءة وكـأنّها تَناقضٌ بين ثقافتين أو حضارتين، من جهةٍ اللاجئون من مجتمعاتنا الشرقية ومن سوريا تحديداً، مقابل بلد اللجوء وثقافة الغرب الأوربي، ألمانيا بشكل عياني حيث كانت مسرحاً لأحداث الرواية، بكل ما تنطوي عليه هذه الإشكالية أو يندرج في سياقها من موضوعات كالانتماء والهوية وقضايا الاندماج وتعلم اللغة والخوف من الآخر والاستلاب أمامه، لكنها وفق تجربة الراوي، وهو البطل الرئيس للرواية، تبدو إشكالية واقعية وحياتية أكثر منها إشكالية ثقافية أو نظرية، فهو لاجئ يسرد تجربته المعاشة في زمن التغريبة المعاصرة واللجوء المستمر، وما يرافقه من أحاسيس متناقضة ومشاعر مضطربة، تحديداً لأشخاص متقدمين في العمر، ليس أقلّها الإحساس بالعجز وعدم القدرة على التكيف أو الاندماج، والذي يمكن أن يصل لدرجة الخصاء النفسي أو الجنسي.

لم يكتفِ الكاتب باللّعب على هذه الإشكالية في المستويين النظري أو الحياتي المعاش، إذ اشتغل أيضاً لتعشيق الإشكالية السابقة في مستوى آخر بعيداً عن صدام الحضارات وتناقض الثقافات وحيثيات اللجوء، مستوى ثالث يعيد الكاتب فيه تلك الإشكالية السابقة إلى مصدرها الحقيقي باعتبارها وليّدة ثقافتنا نحن ووليدة الإعاقة المعاشة في دواخلنا، صراعات لم تُحل في مجتمعاتنا وداخل ثقافتنا وسياقات تطورها، وهي الصراعات التي شكل الراوي “آلان نقشبندي” نموذجها الفاقع، فهو كشخص كردي سوري من أصول يسارية، وينتمي لأيديولوجيا شيوعية، أي غير متدين، إضافة لثقافته ككاتب وباحث، بمعنى أن وعيه الثقافي وانتماؤه الأيديولوجي المتماهيان بوعي وثقافة الكاتب، يقعان خارج المنظومة الثقافية والدينية التي يتحدث باسمها أبو هريرة، غير أن الراوي كما سنكتشف ما يزال يتساكن بطريقة غير شرعية مع تلك المنظومة، فهو يقاطع مع أبو هريرة في علاقته بالقطط مقابل خوف مزمن من الكلاب والنجاسة، دون القبول أو الاعتراف بانتمائه إلى تلك الأيديولوجيا المحافظة.

في المستويات الأولى النظرية والحياتية المعاشة، تبدو الإشكالية التي التقطها الكاتب قضية متكررة في قصص أغلبية اللاجئين إلى مجتمعات جديدة، لكنها في المستوى الثالث تبدو إشكالية خاصة ومركبة، إذ تحكم سلوكيات ووعي كثير من الأشخاص والجماعات مِمَّنْ يَدّعون الثقافة اليسارية والعلمانية، فلا يؤمنون بالتحليل والتحريم وفق المقاييس الشرعية، ولا بمفاهيم الطهارة والنجاسة بالمعنى الديني الضيق للعبارة، لكنهم على الصعيد النفسي وفي انعكاسه السلوكي نجدهم أسرى لهذه المقولات وللبيئة الثقافية التي نشأوا فيها ونهلوا من معينها، ومازالت تتحكم بالكثير من سلوكياتهم وردود أفعالهم في مستوى اللاوعي، إذا أردنا استعارة مصطلحات علم النفس، بغض النظر إن كانوا لاجئين أم لازالوا مواطنين في بلدانهم ومجتمعاتهم، كونهم أسرى هذه المنظومة التي يمكن اعتبار الراوي في واقع الأمر، وفي هذه التجربة العيانية، أكبر دليل على كونه ضحية طغيان الأيديولوجيا المحافظة في مستوى التفاصيل والسلوك، فنسمعه يقول:

“هناك من لا يهمه الفرق بين الحلال والحرام، لذلك فلا آكل إلا في بيت أثق بنظافة أهله وابتعادهم عما هو حرام أو نجس“….

مع أن الراوي يمتلك من المعرفة والثقافة ما يجعله يُدرك هذا التناقض الذي يعيشه، بل ويذهب إلى تبريره:

في داخلي شيخ طريقة صغير، معَّمٌم، ملتحٍ ينهض أحياناً، يوبخني، فأرتعدُ في حضرته”.

لكنه يعود إلى نفي هذا الاعترافبطريقة تُبقيهِ في دائرة الالتباس: “لا. الأمر لا علاقة له بالدين ولا بسواه. أنا امرؤ علماني، لا علاقة لي بعالم الدين، لكني لستُ ملحداً”.  

هذا التناقض سيحكم أو يفسر حدّة الإعاقة التي تحول دون اندماج “آلان نقشبندي” في مجتمع اللجوء الجديد، أو تقبل الثقافات الأخرى، باعتبار الإشكالية المنوّه عنها جزء من ثقافته المحمولة في ذاكرته أو عبر اللاوعي من زمن الطفولة إلى زمن الهجرة الأخيرة، حيث يخبرنا الكاتب أن خوف الراوي من الكلاب يكمن في حكاية السعار أو “داء الكلب” الذي تَعرّضت له أسرة العم “فليت”، حين فَقد آلان نقشبندي صديق طفولته رشو، بل فُقدتْ العائلة بكاملها، فعاش هو وكل أهل القرية حالة رعب هستيرية، يمكن أن نقرأ تفاصيلها التراجيدية المؤلمة والقاسية على لسان أحد الأطفال:

ابنة العم فليت تعوي. الخالة حفصدي تعوي. أبناؤهم. بناتهم يعوون. وانتشر الخبر: العم فليت يعوي كذئبٍ جريح، ويهجم على رجال القرية فاقداً صوابه. إن يَمْسُس أحدهم، فإنه سيبطحه أرضا، وسينهش لحمه، فيصاب بالعدوى. صرت أضع تصوراتي لصديقي رشو الذي لم ألتقه منذ ثلاثة أيام. أيعقل أنه مكلوب، وينبح كما كلب؟. معلم القرية قال: إنهم مكلوبون..!

فقدان الطفل لصديقه رشو، وحالة الرعب والخوف التي عاشتها القرية بكاملها، وتراجيديا المأساة التي صُوّرت بها الحالة، مسنودة بعشرات القصص عن قتل الكلاب الشاردة، والتخلص من الكلاب الهرمة، كل ذلك شكل ارتكاسه نفسية في طفولة الراوي، لم يستطع تجاوزها بسهولة، “كنت أخاف الكلاب. أصوات نباحها يُفزعني. ما من كابوس أتعرض له، إلا وأكون خلاله مطارداً من قبل كلب، أستيقظ، فأجدني ظامئاً، أو بحاجة للتبول.”  

هذا الرُهاب الذي عاشه الراوي في طفولته اضّطره فيما بعد لحمل تعويذة أو تميمة رافقته حتى نهاية دراسته، لتُبعِدَ عنه كوابيس الكلاب التي تنبح، لكنها، أي هذه الذكريات وغيرها عادت للحضور بعد عقود من الزمن حين جاء لاجئاً إلى ألمانيا، وتعرف على صديقته الشقراء التي تُربي كلباً صغيراً، وتُحب الكلاب أيضاً، فأصبح الكلب حاضراً في كل أحاديثهما وعلاقاتهما، بل شكل الكلب حامل الإشكالية الثقافية لتناقضاتهما وصراعهما بعكس الرغبات التي تنمو بينهما، مما أيقظ تلك الذاكرة المحملة في اللاوعي والتي استعادت زمن الطفولة وحوادث كثيرة كشفت هشاشة هذه الشخصية وتلكؤها وغياب المبادرة لديها.

*****

بدأ الكاتب روايته بعبارة “سأقتني كلباً، وأنفصل عن الأسرة”، لنكتشف أن هذ العبارة بما تحمله من قرار شكلت نهاية الحدث الدرامي إن صَحّ التعبير، وبداية زمن الكتابة الروائية، وهذا الأخير هو زمن قصير نسبيا، ربما يمتد لساعات أو أيام، لكن زمن الحدث يبدأ من لحظة تَعرّف الراوي على صديقته الشقراء وصولا إلى قراره باقتناء كلب، وهي علاقة امتدت لبضعة أشهر، غير أن محدودية زمن الحدث يقابلها انفتاح زمن الرواية الحقيقي، والذي يتسع لحياة الراوي كاملة، بل ويمكن أن يذهب أعمق عبر تقنية السرد والتداعي وقص الحكايات والتذكر وأرشيف الراوي في الدراسات التي عمل عليها، حيث فُتِحَ مسرح الرواية على كامل حياة آلان نقشبندي منذ ولادته في تل أفندي من الجزيرة السورية وصولاً إلى لحظة الانتهاء من كتابة الرواية في ألمانيا.

تبدأ الرواية في لحظة انتهاء الحدث، وما بين بداية الرواية ونهايتها نتعرف على راوٍ اسمه آلان نقشبندي، يقص علينا تجاربه وذكرياته والكثير من التداعيات والأوهام والأحلام التي عاشها، وجعلها موزعة على فصول متعددة ومتباينة في الزمان والمكان، فالأحداث المعاشة فيها تقع في ألمانيا كمكان توزع على مجموعة لوكيشنات أو مواقع للتصوير وفق المصطلحات السينمائية، المكان الرئيسي للقاءاتهما كان في حديقة الكلاب المطلة على البحيرة، أو كافتيريا ومقهى سيلونا حيث يمكن أن يجلسان في بعض الأحيان، مع اهتمام بالمسافة التي يقطعها النقشبندي يوميا من بيته باتجاه الحديقة، إضافة إلى تلك السهرة اليتيمة في بيت بيانكا الشقراء بمناسبة يوم الكلب العالمي، حيث هشم هجوم الكلبين الأسودين عليه كل الأحلام والرغبات المختزنة لهذه الدعوة. وبعض المشاهد القليلة في منزله لحظة لجوء كلب بيانكا إليه.

بالمقابل يتسع المكان باتساع الزمن الحقيقي للرواية، التي تذهب مع حكايات النقشبندي وقصصه  إلى أجزاء كثيرة من الجغرافيا السورية، من مسقط رأسه في تل أفندي واستمرارا بتنقلات الأسرة المستمر عبر ريف الحسكة وبلداتها في تداخل مقصود عبر الحدود التركية السورية حيث يوجد الكُرد على جانبي الحدود، وتوغل مع بعض الشخصيات في كردستان العراق وإيران أيضاً، مرورا بمحطات الدراسة والعمل الحزبي والسياسي، وما بينهما من علاقات اجتماعية، أو اعتقال في أفرع الأمن، التي استحضرها الراوي في حكاياته وقصصه الكثيرة، مضافا إليها حكايات وحيوات وتجارب صديقته الشقراء بيانكا وعائلتها وصولا لجدها مربي كلاب هتلر.

في الزمن الأول أو زمن الحدث، بنى الكاتب حوارات مقتضبة مع بيانكا، إلا أنه في زمن الرواية للحكايات والتذكر والهواجس كان يسيطر غالباً ضمير المتكلم للراوي الذي شغله آلان نقشبندي بشكل أساسي كما شغلته بيانكا بشكل جزئي كراوية لذكرياتها، وهذا الزمن الذي بدأ من لحظة انتهاء الحدث والعودة إلى الوراء يمكن اعتباره زمنا دائريا أو مغلقا، مع أنه زمن يتشظى وفق سرديات الراوي وحكاياته التي تذهب بعيدا في الزمان والمكان بدون أية ضوابط كرونولوجية، وفق تداعي الخواطر والذكريات ووطأة الهواجس والانفعالات فقط.

شكلت تقنية الراوي الفرد، آلان نقشبندي الكردي السوري في سياق أزمته التي بدأت باللجوء واستمرت بصعوبات الاندماج وتعلم اللغة، الخيار السردي أو السيري الذي سبق للكاتب الاشتغال عليه في روايتين سابقتين، لكنه هنا يبدو خيار الضرورة لراوٍ أو شخص افتقد في لحظة لجوئه إلى ألمانيا لغة الحوار، ولم يتبقَ له في الحياة إلا مساحة التذكر والمونولوجات وأحلام اليقظة، وكوابيس الخوف والعجز التي أرهقته، حتى أنّ أيّ قارئ يمكنه أن يلاحظ هامشية العلاقات الأخرى للراوي داخل بيته أو مع زوجته وأولاده أو أياً من أصدقائه الآخرين، والتي تقتصر على أحاديث الضرورة فقط، أو التذكر من الماضي.

هذه الحالة تركت الكثير من الآثار الصحية والنفسية على الراوي، وفق توصيف طبيبة العائلة د. بوتسينا بوخالسكي في مدينة ايسن التي يقطنها كلاجئ:

“كولسترولك ارتفع !

أنت على باب الإصابة بداء السكري.

ضغطك ارتفع!…

كآبتك التي تتعرض لها، هي نتيجة عدم مغادرتك المنزل”

فيرد آلان موضحاً عجزه:

“لا لغة تمنحني مفاتيح التفاعل مع هذا المكان الغريب، بالرغم من أنه مكان آمن. أهله احتفوا بنا كسوريين”.

وعندما نصحته الطبيبة بالرياضة، اختار أيسر أشكالها المشي، فرياضة المشي تمنحه فرصة مراقبة الحياة والطبيعة والناس بعيداً عن إحراجات التحدث لآخرين لا يجيد لغتهم، غير أن هذا المخطط لم يكتمل وفق تقديراته، حين اقتحمت السيدة الشقراء بيانكا شنيدر عوالمه الكتيمة، متسلحة بمعرفتها اللغة العربية، حيث عاشت مع زوجها خبير النفط فترة في مدينة الموصل العراقية قبل أن يذهب ضحية تفجير هو والسائق فيما نَجتْ هي بأعجوبة وعادت إلى ألمانيا، وبالتالي هي تعرف شيئا من العربية يسهل عليهما التواصل، ويمنح الراوي ركيزةً لسرد حكاياته إلى مستمع يعرف هذه اللغة، حيث تخبره:

“أوه، إني أعرف بعض المفردات والعبارات العربية. لقد تعلمتها عندما سافرت مع ليونيل إلى الموصل. عمل في حقول بطمة، والقيارة، وعين زالة، وصفية. أعرف الموصل. ريفها، .. عندما احتلها داعش، كنت أنظر إلى الخريطة، وأبكي. أبكي كأنَّ الموصل مدينتي ومسقط رأسي.”!

ورغم أن الكاتب صوّر بطل روايته شخصية يسارية وغنية لجهة تجاربه وبيئته وثقافته الواسعة كباحث وصاحب دراسات وكتب مطبوعة، لكنه من جهة أخرى تركه أسير مخاوفه واضراباته كشخصية معقدة تختزن تشوهات التاريخ والجغرافيا، إنه خوف مزمن حاول أن يتجاوزه في شبابه عبر العمل السياسي مع الأحزاب المعارضة أو بالتصدي لسلطة الاستبداد، لكنه يبدو كخوف سكن وعيه وجيناته التي حملها معه إلى ألمانيا، وساهمت بفضح عجزه كشخص ضعيف متردد مضطرب ومأزوم، حتى في علاقته مع صديقته الشقراء، يتعامل بعقل حسابي، يعرف عدد الخطوات البالغة 1750 خطوة التي يجب أن يقطعها يوميا من منزله باتجاه حديقة الكلاب للقائها، كما يحسب السنتميترات التي يجب أن تبقى فاصلة بينهما أثناء الجلوس على مقعد الحديقة، وبالآلية ذاتها يحسب ما يمكن أن يترتب على اقترابه من مخطوط جدها الذي كان مدرب كلاب هتلر، فيرفض أخذه أو حتى مجرد الاطلاع عليه، الشك والتردد بل الاستنكار:

“إلى أين تقودني هذه السيدة التي ظهرت في حياتي، فجأة، وصارت ترغمني أن أفكر على طريقتها؟”.

ولا يتردد الراوي في محاولة تبرير سلوك العجز والخوف بالاتكاء على القضايا الكبرى، كما يفعل المثقفون غالباً، حيث يبرر لنفسه رفضه أخذ مخطوط الجد بقوله:

“أنأ ابن مكان غدا مسرحاً للحرب، عليَّ أن أكرِّس كل علاقاتي مع الآخرين للحديث عن قضيتي. عن إنساني. عن ذبح الأبرياء. عن هجرتهم”.

مع أنه حقيقة قلما تحدث خارج موضوع الكلاب، حتى وهو يراوغ مع صديقته الشقراء للتهرب من أخذ مخطوط الجد بقوله:

“ما يهمني هو كل ما يتعلق بالكلب المقاتل. الكلب العسكري. الكلب الذي على جبهة القتال. أريد أن أطلع على هذا الجانب، عسى أن أقدم رسالة دكتوراه عنها.”

ورغم مساحة الرغبات والأمنيات التي بدأت تفرض نفسها عليه، وجعلت هذه العلاقة بينهما تنموا وتتسارع بشكل مضّطرد، إلا أنه يهرب باستمرار إلى أسئلة وشكوك لن تنتهي إلى أيّة إجابات مقنعة:

“يا إلهي!، ما هذا؟ كيف تقبلني هذه المرأة، هكذا بحرارة، ونحن مجرد صديقين!. مجرد شخصين تعارفا، وليس بينهما ما يدعو إلى مثل هذه القبلة المختلفة عن قبلاتها الرسمية السابقة، كلما التقينا؟. بل ما الذي دعاها لتوجيه دعوة حضوري إلى هذا الحفل وما بيننا عابر، عادي.”

مع أن بيانكالم تكن أبداً بالنسبة له مجرد منصة يلقي أمامها حمولته الوجدانية من المشاعر وحكايات الطفولة وذكرياته، حيث رسمها الكاتب كنقيض له، شخصية قوية متزنة ومرسومة بخطوط واضحة وحدود صارمة، وتختزن الكثير من التجارب الغنية والإحباطات المأساوية حيث تعرضت في حياتها لثلاث حوادث سير مؤلمة فقدت خلالها أشخاص أو كلاب كانوا جميعا عزيزين عليها، ربما أهّلها ذلك لتكون منذ البداية هي الطرف المبادر في هذه العلاقة، وتحديد الأحاديث المشتركة والتي غالبا ما تتمحور حول الكلاب، لكنها في النهاية بدأت تتحدث عن مشاعرها ورغباتها:

“كنت أعيش حياة متصحّرة، بلا مشاعر جنسية إلى وقت طويل. ثمة شيء ما مات في داخلي. لعلَّ مشاعري كانت كما حقول النفط في الموصل أو كركوك، لقد تفجرت فجأة”.

هذا الحضور الطاغي للسيدة الشقراء في حياة آلان، ودعوتها له إلى تلك الحفلة اليتيمة رغم نتائجها الكارثية عليه، أربكه كثيرا وفضح عجزه وضعفه المستمر، حتى أن القارئ يفاجأ في لحظة اختفاء بيانكا كيف غدا آلان شخصا مسكونا بالخوف، كطفل صغير أضاع والدته، ولا يعرف كيف يتصرف، وباتت زوجته وأولاده هم المقررون في لحظة ضعفه، رغم هامشيتهم في حياته عموما، فزوجته هي التي تقرر منع دخول الكلب إلى البيت، وما ترتب على ذلك من تبعات.

*****

أعتقد أن العودة إلى مقولات التحليل النفسي يمكن أن تساعدنا في طرح الكثير من الأسئلة: هل كانت بيانكا مساحة للرغبة فقط، أم أنها كانت بالنسبة لآلان هي الرغبة المحرمة؟ وهل في هذا التحريم جذر أوديبي أم أنه استمرار للجذر الديني في فهم الحلال والحرام؟

وكيف لنا تفسير عجزه عن المضي في رغبته عندما دعته إلى الحفلة الوحيدة في منزلها بمناسبة يوم الكلب العالمي؟ وهل كان هجوم الكلبين الأسودين عليه هو نوع من تدخل القدر في الميثولوجيا الأوديبية لوضع نهاية لهذه النزوة المحرمة؟ أم أن الخصاء جاء عقابيا على احتمالية خطأ لم يحدث؟ أم هو عجز الذكورة المسكونة بالخوف أما حرية سيدة تخاطبه:

“ربما يخيَّل إليك أنني أقدمت على اغتصابك..”!

مجموعة علامات استفهام يمكن لها أن تغني قراءة النص، وأن تضيء شخصية الراوي حتى في لحظات ضعفه، لكنّ الأهم من ذلك، أنها تساعدنا على فهم تمرده الأخير على وعيه المستلب أمام سلطة اللغة والأيديولوجيا المحافظة والأسرة وكل تمثّلاتها في حياته، حين قرّر: “سأقتني كلباً، وأنفصل عن الأسرة”.

*****  

* “حمهورية الكلب” رواية للكاتب الكردي السوري إبراهيم اليوسف، المقيم في ألمانيا، صدرت عن دار خطوط وظلال- الأردنية في 360 صفحة من القطع المتوسط.

نشر الكاتب روايتين سابقاً “شارع الحرية” 2017، و”شنكالنامه2018، ضمن أكثر من ثلاثين كتابا في الشعر والقصة والسيرة والنقد.