ترجمة: محمد محمد الخطابي
بعد دقائق سوف تحتل مكانها فى هدوء أمام البيانو. ستستقبل الضجيج التكريمي للجمهور بانحناءة خفيفة، فستانها الذي تملؤه خرزات براقة يشع كما لو كان يرد انعكاس الضوء عليه. التصفيق الحاد والسريع لمئة وسبعة عشر من الحاضرين الذين يملؤون هذه القاعة التي أعدت خصيصاً لهذا الحفل لن يتوقف.
أصدقائي سوف يعجبون أو لا يعجبون – لا يمكنني أن أعرف ذلك أبداً – بمحاولات ابنتي فى عزف أرق الألحان وأعذب الموسيقى فى العالم، حسب اعتقادي، نعم أعتقد ذلك لكنني لست واثقاً. باخ، موتسارت، بتهوفن، لقد تعودت أن أسمع أنهم موسيقيون لا يمكن تجاوزهم، وقد أمكنني تخيل ذلك. والواقع هم كذلك، إنني أحاول ألا أقع فى هذه الحيرة، إذ أنني عندما أخلو بنفسي فإنني على يقين أنهم لا يروقونني، وأعتقد أن الجميع يشعر بحماستي الزائفة.
لم أكن قط من عشاق الفن، وإن لم يقدر لابنتي أن تصبح عازفة بيانو فإنني لن أشعربهذا الإشكال، إلا أنني والدها وإنني أعرف واجبي نحوها، وعليه فلا بد لي أن أستمع إلى عزفها. وعليّ أن أبدي إعجابي بها وبفنها، إنني رجل أعمال، ولا أشعر بسعادة مثل التي أشعر بها عندما أحرك دواليب المال والتجارة. أكرر أنا لست فناناً. لو كان هناك فن من شأنه أن يساهم في جمع المال وتراكمه والسيطرة على السوق العالمية، وسحق المنافسين فإنني سأكون أول من يناصر هذا الفن ويتحمس له.
الموسيقى جميلة، هذا صحيح، لكنني أجهل ما إذا كان فى مقدور ابنتي حقا أن تجسم هذا الجمال. إنها نفسها تشك في ذلك، إذ غير ما مرة، بعد كل حفل موسيقي، كنت أراها تنخرط في البكاء، على الرغم من التصفيق.
من جانب آخر، إذا صفق أحدهم دون حماسة فإن ابنتي تجد في نفسها صلاحية مناقشة ذلك بين الحضور. ويكفي هذا لكي تجعلني أعاني، ومن ثم تبعث على كراهيتي لها بشراسة بعد ذلك. إلا أنه من النادر أن يجرؤ أحد على مفاتحتها أو مناقشتها، فقد تعلم أصدقائي من تلقاء أنفسهم أن برودة التصفيق أمر خطير قد يجلب لهم المتاعب، بل إنه قد يؤدي إلى الإفلاس، وإذا هي لم تقم بإشارة تفيد مطالبتهم بالكف عن التصفيق، فإنهم يستمرون في التصفيق طوال الليل مخافة أن يشعر أحدُهم بأنه هو الأول الذي توقف عن التصفيق، ويراقبون يدي خائفين متوجسين من أن يسبقوني بالدخول في الصمت، في البداية كانوا يخدعونني، وكنت أعتقد أنهم فعلاً مُنفعلون ومُعجبون، ولم يمر الزمن عبثاً إذ سرعان ما انتهى بي الأمر إلى معرفة الحقيقة.
استبدت بي كراهية متصاعدة، إلا أنني أنا أيضا مصطنع وزائف لأنني أصفق أنا الآخر عن غير اقتناع. أنا لست فناناً، الموسيقى جميلة ورقيقة إلا أنها فى العمق لا تهمني أن تكون كذلك، ثم إنها تبعث في نفسي الملل.
أصدقائي ليسوا فنانين، هم الآخرون، يروقني أن أنكل بهم، إلا أن أمرهم لا يشغلني. الآخرون هم الذين يجرحونني، هؤلاء الذين يأخذون مقاعدهم في الصفوف الأمامية وفي كل حين يسجلون أو يتظاهرون إنهم يسجلون شيئاً في دفاترهم الصغيرة، إنهم يحصلون على دعوات مجانية تكتبها ابنتي بنفسها بعناية وتبعثها لهم مع ساعٍ خاص.
إنني أبغضهم كذلك، إنهم الصحافيون، وهم يخشونني، إذ في استطاعتي أن أسكتهم متى شئت، في حين أن سلاطة ألسنتهم، خاصة اثنين أو ثلاثة منهم ليس لها حدود، وقد تجرأ بعضهم في مناسبات على القول إن ابنتي لا تجيد العزف، إن ابنتي ليست عازفة سيئة، خاصة على البيانو. لقد أخبرني بذلك أساتذتها أنفسهم، منذ طفولتها وهي تدرس العزف على البيانو، وهي تحرك أناملها بخفة وانسياب على دساتين المعزف أحسن من أي سكرتيرة من سكرتيراتي.. الحقيقة التي لا أفهمها لماماً هي عندما تعزف.. إلا أنني لست فناناً وهي تعزف جيداً.
الحقد ذنب ممقوت، هذا العيب الكامن فى أعدائي يمكن أن يكون العامل الخفي للانتقادات القليلة الإيجابية، ليس غريباً أن أحداً ممن يبتسمون في هذه اللحظة، وبعد لحظات سوف يغرقون في التصفيق، قد يدلي بهذه الأحكام المُعادية.
أن يكون لك أب صاحب نفوذ، قد يكون أمراً إيجابياً، إلا أنه قد يكون كذلك مصدر شؤم ونحس، إنه في الوقت الذي تسألني فيه، كيف سيكون رأي الصحافة في عزفها لو لم تكن ابنتي؟ فإنني أعتقد جازماً أنه ما كان لها أن تختار طريق الموسيقى، لأنه لم يكن لديها قط اهتمامات فنية حقيقية في العمق. لم يجلب لنا ذلك سوى الارتياب والتردد والأرق، إلا أن أحداً لم يحلم منذ عشرين سنة بأنني سأصل إلى ما وصلت إليه، إنه من المستحيل أن نعلم بالضبط لا هي ولا أنا مَنْ هي فب الحقيقة وما تساويه فب الواقع. إنه من السخف أن يصدر انشغال من هذا القبيل عن رجل مثلي. وهي إن لم تكن ابنتي فإنني قد أعترف بأنني أكرهها، وعندما أراها تظهر على خشبة المسرح فإن حقداً دفيناً ومُلحاً يشتعل في صدري نحوها ونحوي، لأنني جعلتها تتبع طريقاً خاطئاً. إنها ابنتي حقيقة ولم يكن من حقها أن تفعل بي هكذا.
غداً سيظهر اسمُها على صفحات الجرائد، وسوف يتضاعف التصفيق بحروف بارزة، سوف تمتلئ هي بالفخر، وسوف تقرأ لي بصوتٍ عالٍ رأي النقاد، وهم يطرون على فنها، ويقرظون عزفها. إلا أنها عندما تصل إلى الآخرين، هؤلاء الذين يصبح المدح عندهم أكثر تعجباً وإشادة بها، فإنني سوف أرى عينيْها تتبللان وتتخضلان، وكيف أن صوتها ينطفئ حتى يتحول إلى همسٍ خافت، وكيف أخيراً ينتهي بها الأمر ببكاء حزين لا متناهٍ، أو سوف أشعر بأن كل قوتي ونفوذي غير قادريْن بأن يجعلاها تقتنع فعلاً بأنها عازفة بيانو جيدة، وأن باخ وموتسارت وبيتهوفن سوف يشعرون بالرضى والانشراح من الطريقة الرائعة التي حافظت بها على رسالتهم وجعلتها دائما حية.
خيم الصمتُ المُطلق الذي عادةً ما يصاحب ظهورَها على خشبة المسرح. بعد قليل سوف تنسابُ أناملها الطويلة الناعمة مرةً أخرى على دساتين المِعزف، سوف تمتلئ القاعة بالموسيقى، وتبدأ معاناتي من جديد.
——————————-
ولد مونتيروسُو فى 21 ديسمبر/كانون الأول 1921في هندُوراس من أم هندورية وأبٍ غواتيمالي وتوفي في 7 فبراير/شباط 2003 ، خلق ببراعة فائقة من خرافات، وحكايات، وأساطير قصصاً قصيرة، اعتُبِرت من أجمل ما كُتب في الأدب المعاصر في هذا الصنف من الفن الإبداعي، يقول عنه الكاتب إيتالو كالفينُو: «تُعتبر قصص مُونتيروسُو من أجمل القصص في العالم، كان بحق ظاهرة فريدة لا تتكرر، كان رائداً في السُخرِية والتهكم، ومعروفاً بالإيجاز، من أعماله: «الشاة السوداء وحكايات أخرى» وهو صاحب أقصر وأشهر قصة قصيرة جداً في العالم وهي: «الديناصور».
*القدس العربي