وحيد نادر شاعرٌ ومترجم وأستاذ جامعيّ من أصل سوريّ يعيش في ألمانيا. حاصل على جائزة الشّعر في الجامعات السوريّة عام 1978 وعلى جائزة معهد غوته للترجمة الاحترافيّة/ معرض كتاب لايبزغ الدولي عام 2012. عضو في اتحاد الكتّاب الألمان وفي رابطة الكتّاب السوريّين، يكتب باللّغتين: العربيّة والألمانيّة وله أربعة دواوين شعر. |
أوراق 19- 20
شعر
وضوء:
صحراء أَكبرُ من كتابِ الجغرافيا، أَصغرُ من مساحةِ مثلَّثِ قلبِ أُمِّي، على رؤوسِ المثّلثِ دَرَكٌ، دَركٌ، دَرَك، على القاعدةِ رئيسُ الدّركِ خلف شاربين كثّ رملُهما، بينهما وردة شوكيَّة الأَجنحة، لحيةٌ تصرخ في احتراقها: رقَّةٌ أَتولّى خلافتَها، يبايعني هارونُ الرشيد ويوصي بأَن يخلفَه على عرش المثّلث ذي الوردةِ رجلٌ يحبُّ الشّعرَ والسّكرَ، فُراتَ الغزال/الغزالة والرِّقّةَ الظبيةَ، رجلٌ يوقد فراتَ بواسع رقّتها، يحرقُ الدركَ الأَسفل والأَعلى، ويوضّئُ الصّبح بجمر فخذيّ عشيقتِهِ فُرات، بدمع النّخل في الرمل لحظة طلوعِ الشرق من حقولِ الصبّار قرب سماءِ الجزيرة.
الدعاءُ الأوّل:
… نوفا عوفا موضى ثلجيَّة
شَمسيَّة شاهَة ولفْ سوريّة
مشَايخ ظلمَة طلِّة وفديّة
عانا نومَا حلاوَة غازيّة …
بلاديَ أَنتِ، طيرٌ وحبّ، وينقرُ في رملِكِ البردُ قتامَة الوقت دِقّةً دَقّة. في بلاديَ منكِ الكثيرُ ووحدَكِ أَنتِ البلادُ، قاربٌ يحرق الماءَ حين يسري، صخرةٌ سطّحها الريح، قريةٌ من رسائِل من حمام، ضيعةٌ من تنانيرَ يشعلُها الرّماد، يا مريمَ قصرِ العذارى، يا فرات الأنوثة: خبّئي وجهَكِ في زهور السّراب، حلمتيكِ في ملح يديكِ، ارضعي النهرَ، يا ابنةَ طهَ، فقد حان وقت سكر الأمير وقد أدمعتْهُ بناتُ شِعره شعراً.
على ضفّةِ هذا الفراتِ تجيءُ فراتُ، تأخذ النهرَ، مثلما تأخذ ابنها من يده وتتركُه كالمساء يدبُّ على وقعِ خُطاها، تضيء بماء وجهها أحلامَ هارون رشيدةً ساهية فيها وقد وحّمتها فراتُ، لفّتها بمناديل زهر الشّوك، لقّمتها وحيها، أرضعتها النسيمَ، بلّلتْ فساتينَها بعرق البلَح ولملمت نشيج صدرها حول وجه الخليفة: أدلقُ نهدي الطفلَ لِطفلٍ يشمُّ الأُمومةَ في نزقِ الرّملِ ويشهقُ كالأسير المحرّر من غبطة العاصفة! أنا فراتُ قصيدةٌ صحرة، قصّة بيزنطة تمرّ سائحةً بين خيام البداوة، تزرع النّخل لتعبر صوب السّماء، وحين ترى الفرات تهزّ نخيل الغيم وتنوح مع ألم الحمام على رقّة باقية: “سرحنا هناكَ، زرعنا الدّوالي سكراً وقيَّل فينا الغمامُ، نما أَرزُ ساحلنا في الخيام، سما الطّير يرفع أرضاً ويبني السّماءَ، نبتنا على الرّمل تمراً ومنغا ورحلةَ صيفٍ بوجهِ الشّتاء، يقول العناء.”
الدعاءُ الثّاني:
… عيدَة غرنَة هِند خزنَة
مريَم بخّور سعْدة كحلَة
زيدَة بُستان تفاحَة نجمَة
نورا ستَّة ندجومَا عدْلة …
أَيُّ زمانٍ لم يزرْ رقّتي، أَيُّ مكانٍ ليس فيها استراحَ، راحَ بعيداً وهجَّ في رائحة البخّور مغرّباً نحو سلوقس مشرّقاً مع موكب الرّشيد وضفافِ الفرات، ينشر ولعه بسوريّة رقصاً مع نِسوة أزعلن نسوةً، قتلنَ حرَّ المكان بِقرِّهِ، وقرَّهِ بِبرِّهِ، أضأنَ النهارَ بظلمة الفجر، وهبنَ البتّانيّ الزّرقة في العتم فوهةً من قمر، عزّةً تملأُ الأعينَ بالسّطوحِ المكوّرة كأرغفة الخبز، اسطرلابات فلك وكواكبَ تسقطُ في العين، تلفحُ الوجهَ كالسّيفِ وكالرّقة ترقّ في القلب، أَمام أُنوثة الهواء في واحاتٍ ملامحُها الرّمان والفلكُ، مواعيدَ ملوّنة في هبوب الفراش قادماً من حرّان.
حوضُ فراتَ يخلِّفنا لو تمنّينا، يهدهدُنا، يبلّلُ فينا حقول ولادتنا بالدّمعِ ويجمعنا في يديها، فتسكبنا ونكرج كالحجال على ملقى دروب الدم الذي في نبت قلبها، فكيف نفترق؟ فراتُ، يا باشِق الحرّ، كلُّهُم يعشقونَ الظلالَ وأَنتِ سعفةٌ تلهجُ بالسّحاب، أنتِ نهدانِ متكئانِ مثل شيخينِ من رمل، أنت جِمالٌ جميلةٌ ونوقٌ أنيقةٌ ترعى وضوحَ الكثيب أحمر على شفاه الشّجر، املئي جسدي بغلال الرّملِ والماء:
“ولتكن هذي الرّمال الزرق حبّاتي ودمعي في حقولك، ولتكنْ هذي الخيام الخضر أشجاري ودربي في سهولك، وليكنْ حبّي لكِ يا ربذتي السّمراء قطعاناً من الواحات كُثباناً من القطعانِ ترعى مَع فصولِك!
هل دوائي أن أُحبّ الشعرَ والصّحرا بلاداً أشتهي فيها بلادي، أو نساءً في ربيع العمر يسرجنَ الصهيلَ الصّبرَ في غَمرِ الجيادِ، أو بلاداً لم تُهجّر أهلَها في كلّ وادٍ من سوادي؟
لو نخيلي لم يمزّق سعْفَهُ، لاحتار روحي في طريقٍ خرّ كالأيّام في خوف البوادي!”
الدعاءُ الثَّالث:
…صبحيّة وضحَة مزيونَة عبْلة
نوفيّة خاتون جميلَة زينَة
أَميرة عنُود غزالَة فطمَة
ضحيَّة شيخَة هويَّة زهرَة …
ما راود فراتُ فُراتَه، ولا هي التي راودتْهُ، المكانُ ليسَ في مصرَ والزمان لم يكنْ فرعوناً، هي الرقّةُ وهوَ فرات “غزالٌ يحمور” ضاعَ في رحمِ سوريَّةَ، سمعتْ صوتَهُ القوافِلُ، أخرجتْهُ من دوحةِ الجبال، قادتْهُ إلى بغداد يرعى، يهبّ ناياً تغنّي وعشباً ينادي بالندى الخضرةَ إلى ركعةٍ من ربيْع، هو فرّيّ اصطادتهُ دروبُ الحريرِ رفّ سلوى على خصرِها، يطير هلالاً خصيباً يسيرُ بإبراهيم إلى النّيل، يرى في المنام طاووساً يراود عزّ العزيز، يخدش حياء الأمومة في زليخاته من أَمام ومن خلفَ وهنّ يصلّينَ إلى رغباتهنّ!
دُعَّ يتمَها وانسكبْ في نيلِها يا فراتُ، أنجبْ لغاتنا وامزج دياناتِنا، خلّف فلسطينَ، وابسطْ مضاربَ أَرضِ النبوّةِ باتجاهِ الجنوبِ الإِله سبأ، أَلم نشرحْ لك صدرَهَا بآثار أقدام الرّيح في كهوفِ الوحي وأعشاش الحمام وبيوت العنكبوت، ألم نبنِ على ظهرِها كعبةً حجراً من حجيج وماء؟ ألم نسألك أن تقرّشَ لهجاتِها وكثبانَ وهجِها وأعوادِ مسك شعابها؟ أَلم تسرَح بأَيّامِك على سمرةِ أَحواضِها، يوم اندرى عشب الجزيرةِ تحت قطعانها واعتلى بطون المياه فوق حمرة أفخاذها أمام عيون أفريقيا الحمراء؟
لماذا تركتَ عري الطّغاة يسبح في مياهكَ يا رملُ؟ ألم ترَ يا فراتُ الأعناق مزنّرة بالبنادق تفتك بالنهر فيكَ وتقتل الماء بالرصاص؟ كيف رقصتَ مع نساء حسبة يغتصبنَ خنساواتك الحسيبات، وكيف انفرشَ رملُ حاجبيكَ ظلالَ نخلٍ لأحلام خلافةٍ ما رآها الوليد أو الرشيد ولم تحلم بها قرطبة؟ أين نام سلامُ العجيليّ ساعة احترق العتمُ وسُرق النّهار من الضوء ويوم طغتْ راياتُ سوادٍ على ممرّات السّماء إلى سوريّة؟ إلى أين ارتقى متحفُ طهَ، متى ستعود فراتُ إلى طين دار أبيها؟ متى سنلتقي يا فرات، وطنٌ مهرُكِ: عقدٌ من ثمارالتّمر لعنقك وكثبان من ريح الشّمس لصدرك ودمعٌ عرّقه الوجدُ على شفتيّ لشفتيكِ؟
“يا رملنا أَحسنْ إِلينا حسنَنا كفراتنا، صبَّ الهوى آهات بطمٍ أسعفت واحاتِنا، أَرسلْ جمالَ زليخة فينا وخلّفْنا كيوسفَ صابرينَ مودّة تسقي النساءَ خصوبةَ الإبحار في أجسادنا، يا رملنا رقّق ثياب فراتنا بالماء راودها بأمنيةٍ، شآمُ العين قرّتها، وأسعدنا بدرّ في تنهّد نهدها الظمآن، أنعم بالسّلام وليدَها وتليدَها.”
*(إعادة ترتيب لنصّ منشور في ديواني “الحمد للربّ لم يلد وخلّف لي حبيبي” دار التوحيدي، حمص 2000″. وتناصّ يحتويه، رغم انفصال بعض مضامينه. نشأ النصّ الأصليّ في الرّقة وحلب بدايات تسعينيّات القرن الماضي ويحمل نفس العنوان).