المحامية منى أسعد
أوراق 19-20
قضايا
تحتفل دول العالم في 8 آذار من كل عام بيوم المرأة العالمي، بالرغم من تباين واقع المرأة تبعاً لتباين الحالة الحضارية والفكرية والاقتصادية والسياسية للدول والمجتمعات، ومدى سطوة النظام البطريركي والعلاقات التقليدية المحافظة فيها، ففي حين تسود أغلب المجتمعات الغربية الديمقراطية مبادئ المساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية- وإن كنا نشهد تراجعاً ملحوظاً في هذه القيم في مع تنامي ظاهرة الأنظمة الشعبوية- نجد دول العالم الثالث، بما في ذلك بلدان المنطقة العربية وسوريا تحديداً، لا تزال ترزخ تحت نير النظام البطريركي الأبوي، وسطوة الثقافة التقليدية وهيمنتها على المجتمع، والتي كرستها النظم الاستبدادية عبر عقود من الزمن، من خلال وسائل الإعلام والإعلانات والبرامج التلفزيونية والإذاعية والمناهج التعليمية، وحمتها بقوة الدستور والنصوص القانونية المنبثقة عنه، والمستندة في مرجعيتها إلى العرف باعتباره أحد مصادر التشريع، وإلى النصوص والاجتهادات الدينية عملاً بالمادة الثالثة من الدستور السوري التي تنص على أن: “الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع”، الأمر الذي كرّس دونية المرأة وتفوق الرجل في الفضاءين العام والخاص، على اعتبار أن المرأة ناقصة “عقل ودين وحظ”، مما حال ولا يزال، دون تحرر المرأة بشكل حقيقي ودون تمكينها من ممارسة دورها الفعال في بناء الأسرة والمجتمع، بالرغم من جهود ومحاولات منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية السورية عبر العقود الماضية لمساعدتها على تجاوز ذلك.
لا شك أن تأكيد هذه الحقيقة يتطلب العودة قليلاً إلى الوراء، يوم كان المجتمع السوري مجتمعا مستقرا متماسكا ولو ظاهرياً، وكانت المرأة النائب تدخل قبة البرلمان/ مجلس الشعب ضمن الكوتا التي منحها لها النظام، وتخرج منه كما دخلت، دون أن تترك أي بصمة تؤكد على عملها من أجل تحرر المرأة وحقها بالمساواة التامة بالحقوق والواجبات مع الرجل، أو العمل جدياً على صياغة نصوص قانونية تُحسن من واقع المرأة في الريف أو في البيئات المدنية التقليدية، وتمنع استعبادها من قبل الأسرة والمجتمع، وتحدّ من حق الأهل في إزهاق روحها، كما في حال صياغة نص قانوني يجرم القتل “بدافع الشرف”، باعتباره يشكّل جريمة قتل عمد وليس جريمة شرف. ويعود هذا التقصير من وجهة نظرنا إلى أن المرأة النائب كانت تهتم بإرضاء الجهات التي دفعت بها إلى هذا الموقع، وليس لخدمة مشروع نسوي حقيقي وحضاري، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذه النائب هي في الأصل لم تغادر العقلية الذكورية ولم تُخرج نفسها من إطار الثقافة البطريركية وقيمها وتعاليمها السائدة.
واكب ذلك توجه منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية التقدمية السورية آنذاك، باتجاه إطلاق مناشدات خجولة للحكومة السورية، من أجل تحسين قوانين الأحوال الشخصية وتجميلها، كرفع سن الحضانة للأطفال، دون أن يعني ذلك التطرق لحقوق المرأة الأم أو لحقوق الطفل المثلى.
وقد تطورت هذه المناشدات بعد عام 2002، إذ تحولت إلى مطالبات بضرورة تعديل القوانين بما يخدم قضية تحرر المرأة ومساواتها التامة، لتتماشى مع ما وقعت عليه الحكومة السورية وألزمت نفسها به بمجرد مصادقتها على اتفاقية “إلغاء كل أشكال العنف ضد المرأة” (السيداو)، إلا أن مطالباتها هذه لم تخرج عن حدود وإطار المنتديات الثقافية وحوارات النخب السياسية والناشطات والناشطين في الحقل العام، الأمر الذي خلق هوة بين الرائدات النسويات آنذاك، وبين المرأة الريفية البسيطة، الأمية أو شبه الأمية، القابعة في الأرياف وأحياء السكن العشوائي في المدن، والتي تحولت إلى مجرد يد عاملة رخيصة، تقارع الفقر والذل مع أطفالها وزوجها، أو تلك المرأة التقليدية المدينية المستلبة حبيسة السلطة الذكورية وتسلطها الغاشم.
لذا عندما جاءت انتفاضة السوريين أو ثورة حلم “الكرامة والعدالة الإنسانية”، كانت المرأة والرجل معاً منذ اللحظات الأول، منددين بذل الاستعباد والتسلط، ومستعدين لمواجهة آلة القتل والدمار والاعتقال والتعذيب في سبيل الكرامة والحرية، وكان تقبل الرجل للمرأة المحمولة على الأكتاف أو المشارِكة في عمليات الإغاثة أو الإسعاف أمراً لافتاً، لكن عنف النظام في مواجهة السوريين، وما تبعه من نزوح ولجوء إلى المخيمات في تركيا ولبنان والأردن وصولا إلى كردستان العراق، كشف النقاب عن حقيقة تردي الواقع القانوني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمرأة السورية التقليدية، والذي تجلى عبر كثير من الآفات المجتمعية، سواء ما تعلق منها بعقود الزواج المختلفة التسميات والتي تصب في مجملها في مصب الاتجار بالفتيات والنساء، أو ما تعلق بمشكلة الأطفال مكتومي القيد الذين شكلوا ولا يزالون، إشكالية ذات بُعد اجتماعي وإنساني على أكثر من صعيد.
نحن لا نجافي الحقيقة إذا أكدنا على صوابية ما دعت وما تزال تدعو إليه المنظمات المدنية والنسوية، من تشجيع النساء على كسر حاجز الصمت، وفضح الممارسات اللاإنسانية التي يتعرضّن لها سواء في البيت أو في المجتمع، لكننا لا نجافي الحقيقة أيضاً، إن قلنا أن هيمنة الثقافة التقليدية وقيمها البطريركية على الحياة العامة والخاصة، ستتسبّب في تعريض تلك النسوة والفتيات لأوضاع أكثر صعوبة ولأخطار قد تصل حد القتل، وقد شهد المجتمع قيام العديد من الآباء أو الأبناء أو الأقارب، بقتل فتيات أو نساء العائلة، ممن جرى اعتقالهنّ وتعذيبهنّ فور إطلاق سراحهنّ، وذلك بقصد التخلص من وصمة العار، دون أن تَجد تلك النسوة من ينجدهنّ أو يقدم لهنّ يد العون أو سبل الحماية.
هنا من المفيد الإشارة إلى أن ثمة اختلاف في ظروف وآليات عمل منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية المحلية، عن نظيرتها الأوروبية ذات الاهتمام المشترك، التي تتمتع بحماية القانون ودعمه، مما يتيح لها العمل في بيئة مواتية وآمنة أولاً، ويتيح لها اللجوء إلى إعمال القانون في كل ما يتضمنه من نصوص لصيانة ورعاية حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، وأولها الحق في الحياة والأمان والكرامة الإنسانية ثانياً، وقد مكّنها هذا من تحقق أهدافها في تأمين ما تحتاجه المرأة المعنّفة من حماية ودعم وتمكين لتولي شؤونها وشؤون أطفالها بنفسها.
على خلاف ذلك، فأن عمل منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية السورية، كان دوماً محفوف بالصعوبات، وبات أكثر خطورة مع تحول الثورة إلى حرب دموية، وسيطرة الجماعات الإسلامية المسلحة على مناطق عدة من سوريا، مما جعل هذه المنظمات عاجزة عن تقديم أبسط أشكال الدعم والحماية للمرأة السورية في أماكن تواجدها، سواء ما تعلق بحمايتها من عنف الحياة اليومية في المخيمات، أو عنف العائلة والمجتمع، أو عنف سلطات الأمر الواقع.
لكن كيف يمكن للمرأة السورية تجاوز هذا الواقع المتردي؟
ما من شك أن الحرب السورية لم تخلق هذا الواقع بكل رداءته، وإنما كانت كاشفاً له وفاضحاً لغياب دور أجهزة الدولة وعجزها المتنامي أثناء الحرب وما بعدها وحتى الآن، عن أداء مهامها والقيام بوظائفها، بحيث بات يتوجب على المعنيين في صياغة مستقبل سوريا أن يأخذوا بعين الاعتبار:
أنه وبالرغم من توقف العمليات العسكرية إلا أن الواقع المجتمعي لم يحظى بالاستقرار، فتفتت سوريا جغرافياً وسياسياً منذ أكثر من عقد من الزمن، نتيجة حرب النظام ضد شعبه، والتي أدّت إلى خضوع البنى المجتمعية في كل منطقة لقوى وقوانين سلطة الأمر الواقع، وخضوع الأخيرة في الوقت ذاته، لإملاءات القوى الداعمة لها إقليمية كانت أو دولية، الأمر الذي خلق متغيرات اجتماعية واضحة امتدت لتطال الحياة الاجتماعية والثقافية، بحيث لم يعد ثمة واقع اجتماعي واحد، ولا ثمة امرأة سورية واحدة، وإنما بنى اجتماعية مختلفة ونساء سوريات متباينات في ظروفهنّ ومعاناتهنّ بتباين مناطق تواجدهنّ، فاحتياجات المرأة السورية في مناطق سيطرة النظام تختلف عن احتياجاتها في مناطق سيطرة قوات الحماية الكردية “قسد”، كذلك تختلف عن تلك المتواجدة في مناطق سيطرة القوات التركية، وعن احتياجات ومعاناة المرأة في المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام/ النصرة سابقاً، فضلاً عن السوريات في مخيمات اللجوء في دول الجوار، ونظيراتهنّ في الدول الغربية التي منحتهنّ كزوجات وأطفال امتيازات حقوقية ومالية أدّت لاستقلالهنّ الاقتصادي، وبالتالي التحرر من هيمنة الرجل بصفته معيلا للأسرة.
على النقيض من ذلك نجد أن معاناة المرأة السورية، في مخيمات اللجوء طالت كافة مناحي الحياة، بل امتدّت لتشمل كل الفئات العمرية ومن كلا الجنسين، بحيث باتت منظمات الإغاثة الدولية كما المنظمات المحلية عاجزين عن الاستمرار في تقديم العون والإغاثة المناسبين لهذه المخيمات ولأعداد قاطنيها المتزايدة.
وقد عانت المرأة ولا تزال، في مناطق سيطرة الجماعات الجهادية المتشددة (داعش وهيئة تحرير الشام/النصرة سابقاً)، في محافظة الرقة سابقا، وفي إدلب ومحيطها، إضافة إلى الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة من تخلف وعسف الظلاميين والمتشددين الإسلاميين ومن جور “محاكمهم الشرعية” غير القانونية، وأحكامها الصادرة عن مقاتلين، نُصبوا ليكونوا قضاة فيها، والتي تصل حد الإعدام، وأحكام الرجم والجلد لفتيات ونساء، فقط لمخالفتهن قواعد الشريعة الصارمة، سواء فيما يتعلق باللباس أو بممارسة بعض الحقوق الشخصية كالحق في التعلم أو التنقل.
في حين تعاني المرأة في مناطق سيطرة النظام، من الفساد السياسي والاقتصادي ومن الاستبداد الديني، خاصة بعدما عمد النظام إلى مداراة عجزه عن القيام بوظائفه، بنقل بعض من صلاحياته ومهامه إلى رجالات الدين، مما أوجب منحهم المزيد من الامتيازات لتمكينهم من القيام بتلك المهام، الأمر الذي أدى إلى تمدّد وتغوّل الإسلام السياسي في الدولة والمجتمع، والذي أفرز فيما بعد، القانون رقم (31) لعام 2018، كتعبير عن هذا الواقع الجديد، وبموجبه تمّ تكريس ليس هيمنة رجال الدين وسطوتهم على الحياة المجتمعية الفكرية والقانونية والاقتصادية والسياسية فحسب، بل أيضا منح بموجب المادة (5) من القانون المذكور، نساء تنظيم “القبيسيات” الحظوة بعدما أطلق عليهنّ أسم “عالمات القرآن الكريم”، واللواتي تكررت الإشارة لهنّ في أكثر من مادة، فأجاز لهُنّ هذا القانون التدخل في الحياة العامة والخاصة للمجتمع، الأمر الذي سيساهم في تقييد عقل النساء والفتيات على وجه الخصوص، بقيود الثقافة الذكورية البطريركية ومفاهيم الفكر الشمولي الغيبي، وهذا بدوره سيترك بلا شك، آثاراً سلبية على الأسرة والمجتمع معا، كما سيحدّ من قدرة وعمل المنظمات المدنية والنسوية ذات الطابع الديمقراطي في الداخل، إن وجدت، وسيعيق بالتالي محاولاتهم تقديم أشكال من المساعدة والتمكين للمرأة في هذه المناطق.
أما النساء في مناطق الحماية الكردية فعانين ولا يزلنّ، من زجهنّ قسراً في الأعمال الحربية والاستخباراتية، بذريعة مساواة النساء بالرجال في كافة المجالات، وبالتالي إخضاعهنّ لحياة تتعارض مع طموحاتهنّ وتطلعاتهنّ، في حين تُخضع سلطات الحماية الكردية المنظمات النسوية والحقوقية والإنسانية غير التابعة لها للمراقبة الصارمة وتحد من حرية الحركة لديها.
حمل هذا الواقع المتشظي، بالإضافة إلى فساد سلطة الدولة وعجزها عن تلبية الاحتياجات الأساسية للحياة المجتمعية بالحد الأدنى، الكثير من الأزمات الحياتية والنفسية الضاغطة، خاصة لدى ذكور العائلة ورجالها لما خلفته من إحساس بالضعف والعجز وعدم القدرة على التكسب وتأمين الرزق، وقد كانت المرأة الضحية الأكبر لهذا الواقع، إذ غدت أداة تفريغ لغضب وعنف الذكورة، سواء بتعريضها وأطفالها للضرب والشتم المباشر، والذي كثيرا ما كان يودي بحياتها، أو بتعريضها للطلاق والطرد مع أبنائها، وعليه فقد باتت المرأة السورية زوجة كانت أم أختا أم ابنة أو أما، ضحية على أكثر من صعيد في آن واحد، فهي ضحية النظام البطريركي وتخلفه وسطوته وجبروته أولاً وضحية فساده عجزه ثانيا، وضحية عجز وضعف المنظمات المدنية والنسوية ثالثا، وضحية تخلف وظلم واستبداد سلطات الأمر الواقع رابعا، وضحية الظروف الحياتية المتعثرة في أماكن ومخيمات اللجوء خامسا وليس أخيرا.
لهذا فنحن نرى أن واقع المرأة السورية، خاصة في أماكن ومخيمات اللجوء، وفي مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع بما فيها سيطرة النظام، سيستمر بكل سوداويته ورداءته بانتظار أن تتوافق الدول الفاعلة في الملف السوري على حل للقضية السورية، وهذا يعني أن المنظمات المدنية والنسوية السورية ستبقى عاجزة عن تقديم العون والمساعدة الحقيقيين لتلك النسوة، ومن هنا يمكننا التأكيد أن المرأة السورية لا تحتاج إلى الورود وعبارات التهنئة بيوم المرأة العالمي، لأنها أبعد ما تكون عن فرح العيد وبهجته، ولأنها تحتاج حقا، إلى كل ما من شأنه مساعدتها على تأمين مأوى لها ولأطفالها ومساعدتها على إطعامهم وتأمين العلاج الطبي اللازم لها ولهم، وتقديم ما يمكن تقديمه من الدعم القانوني من أجل تمكينها من الوصل إلى حقوقها المادية والمعنوية اليوم وغدا.