عبود سلمان العلي العبيد، فنان وناقد تشكيلي مقيم في كندا.
أوراق 19-20
تشكيل
دائما تؤكد الرقة، هذه المدينة التي تغفو على ضفاف نهر الفرات الخالد، بوداعة تامة. بأنها مولد استبصار الإحساسات الإنسانية، في فضاء المكان والزمان. لكي يأتي منها الألق الإبداعي الجمالي والمعرفي. وذلك هو من مقومات الفن والإبداع، هناك وفي عمق تجربة النحات والفنان التشكيلي، المدرس والكاتب الروائي المبدع (أيمن الناصر)، والذي يميل في شتى إبداعاته إلى الواقعية التعبيرية. خاصة عندما يكون الخيال والتخيل، هي حامل جهد هذا الفنان، ونتاجه الإبداعي المشبع بالروح المحلية والبيئة الفراتية، نسبة وادي الفرات.
وتبرز قيمة الانسان التواق الى الحرية، في عمق كيانه الإبداعي الذي خرج من تراب أجداده القدماء، في أرض الفرات الخصبة. حيث كان مسقط رأسه والارض التي ترعرع بها (مريبط) التي كانت مسرح ملاعب طفولته، بتلتها الشهيرة التي غمرتها مياه الفرات. بأسطورة النهر سلطان، والتي كانت تمور بالحب والحياة، تحت شمس البلاد السورية، وكأنها أقاصي الوهج والأوجاع التي تلون ضفاف الحلم، في جدلية الانتماء والعطاء. في عمق الحدس الانساني، معبراً عن أحزانه وهواجسه، من ألم وفرح وحزن وانتظار، مستمدا من صباحات الريف لوناً وتكويناً غنياً.
وهذا ما نلمسه في مساحات الحوار واللون، وفي الشكل والزخرف والمنمنمات الفراتية. التي تستحق المطالعة والتحليل والدراسة. والتذوق في عمق جماليات الطبيعة عبر رهافة الخط، وقوة التشكيل والبنى الجمالية. وهذا شأن مبدعنا الفنان النحات (أيمن الناصر)، بما يتسم به من أصالة، وصدق، معبراً عن ذاته وعن محيطه، ومجتمعه. حيث لازال الفن في المدن البعيدة، عن العاصمة بخير. لأنه – إلى درجة ما – ما يزال بعيدا عن التجارة والمساومات والمزايدة. لهذا سكنت أعماله النحتية بأحجامها المختلفة، ميادين الرقة والقرى المحيطة بها. إضافة الى بعض المدن السورية الأخرى، كما وصلت أعماله إلى مدن عربية شقيقة في اليمن والسعودية ولبنان والاردن والسودان. وقد جسد في العديد من النصب التذكارية، شخصيات تاريخية مبدعة. تركت أثرها، لأنها انطلقت أصلا من أرض الرقة الى العالم، كشخصيات “البتاني”، و”ربيعة الرقي”، و”ثابت ابن قرة الحراني”، وصولاً إلى المجاهد الكبير “رمضان الشلاش”، والمعاصرين أمثال النائب “حامد الخوجة”، والشاعر “فيصل بليبل”، والمؤرخ الشاعر “مصطفى الحسون”، والأديب الكبير “عبد السلام العجيلي” وآخرون كثر أنجبتهم “الرقة”.
وقد استطاع الفنان التشكيلي والروائي القاص (أيمن الناصر) أن يحاكي المناخات الصعبة. وتحويلها إلى عوالم جمالية كبرى تمثلت بإبداعاته وأعماله الفنية، التي يمتزج فيها الإيقاع الصامت بالهادر، كما فضاءات البادية السورية. والرقة، تبدو بنتاج مبدعيها الثقافي، متحفاً بشرياً من الجماهير الواسعة، حيث المجتمع العشائري والقبلي، وحيث البدو والحضر. وأصحاب المهن اليدوية. تضج بالجمال الانساني الريفي، وتبوح بصوت الأرض والإنسان. حيث الفرات وجهٌ من خيالٍ يُرضِعُ الأرض العظيمة.
من هنا جاء عمله وجوه الأمس، رؤية اليوم المتجددة، في ابداع لا حدود له. كان قوامه روح المدينة: الزمان والانسان. في حركية الحس الفني المرهف وتعبيراته، التي تنهل من تاريخ الفنان، تجربته وبيئته الخصبة والغنية، التي تتسم بتفرد سلوكه الانساني والإبداعي. وصار في صدر البادية الشامية، والرقاوية، السورية، أيقونة تضاهي رهبة الفرات، ولفحة الشمس على صدر النهر، وترى ألوانه، وتكوينات أعماله يتبدى في كحل عيون الفراتيات. عندما يلتقي مع سحر الأفق المدهش وهو يطاوع أصابع الفنان التشكيلي/ الرسام (أيمن ناصر).
حينما رسم النهارات وكأنها (بازار من أرض الفرات) حيث المرأة: الأم، والحبيبة والصديقة والاخت والزوجة، والرفيقة، هي عنوان حياة. وهي شجرة عائلة الفنان الذي تنعكس ألونه في تصوير انفعالات الارض، ومشاعر الإنسان المرتبط بها، وبذكرياتها. والتي تشكلت ظلالها الغافية في الحس الغرافيكي التصويري المتماهي في مونوكرومية (التدرج في اللون الواحد)، وهي إحدى طقوس الفنان التشكيلية المموسقة، إذا جاز التعبير، محققاً تآلف الألوان، وانسجامها وتناغمها. وهنا أيضاً سمة أساسية وخصوصية تتصل بأسوب الفنان أيمن ناصر، والذي يسعى لتحقيقها في تجربته التشكيلية.
ثمة غنى مديد في أعماله، من حيث الموضوعات، بما يولد لديك إحساساً حيوياً باللون، وشخوص العمل الفني. وخاصة تلك التي تتناول علاقة الانسان والارض، عبر سماء مشبعة بغيوم اللون. هكذا هي أعماله لا يمكن الولوج إليها أو التعبير عنها، سوى بالجمل الشعرية أحياناً، وهو القاص والروائي. وكأنه يكتب قصيدة لونية، تتنازع الحياة مع النص القصصي المكتوب، أو مع فصول وشخوص رواياته. هناك تتلمس جمال الفرات السري، وتمضي معه حيث السنابل والتراب والتاريخ والحلم بذكريات حميمية، أو يأتي بها إليك.
مشاعر الفنان العاشق تتدفق عبر خلجات روحه، لتولد عبر ريشته وألوانه الخلابة مصورا بعين المبدع الأرض الفراتية، وبيوت الطين والشبابيك المتعانقة مع شخوصه الاثيرة، فوق مسطحه التصويري (قماش اللوحة) متأثراً بتجريدات مدرسته الفنية التصويرية. حيث الانطباع الاولي: مسرح بصره في ربوع النشأة واليفاع، ارتباطه الاصيل والحميم بأرضه وناسه، ودفء بلاده ووطنه الكبير. منفحتاً على العالم، هذا البيدر الكوني. فالكون، ما هو سوى قرية صغيرة!