«أيام دمشقية»… الحنين لسوريا وليالي «الحكواتي»

0

رحلة سفر شيقة وذكريات عن المدن والميادين والشوارع والبيوت والمقاهي ورائحتها السورية يستدعيها الشاعر والروائي المصري أشرف أبو اليزيد في كتابه «أيام دمشقية» الصادر أخيراً عن دار «خطوط وظلال» الأردنية.
عبر لغة تمزج المجاز الشعري بسلاسة السرد الروائي يتوقف الكتاب عند «قاسيون» الجبل النبيل الجميل أو الحضن الذي هدهد البشر زمناً طويلاً. يصعده المؤلف قبل أن يهبط منه للسفح فتولد دمشق مثل «دراويش المولوية»، في مشهد آسر خصوصاً في وقت الغروب: «كانت حكايات دمشق تودّع النهار ويختلط حلوها ومرها في السماء فتصنع نسيجاً نورانياً تتدفق فيه آمال الدمشقيين وآلامهم يودّعونها وهم على أمل بغدٍ أكثر بهجة». ويشبّه «قاسيون» بالمدينة الأولى للدمشقيين، «عاش به أجدادهم الأُوَل وحين وهبهم حكمة المعرفة ونعمة النسل وخبرة التجربة تركوه للسهل والغوطة التي وهبت اسمها لدمشق».
ويرى أبو اليزيد أن الموسيقى في سوريا غواية أخرى، ويذكر لقاءه مع عاشق للموسيقى في الحارات الدمشقية بشاربي باشا أو «قبضاي» وعود موسيقار ونظارة تشبه نظارة الملحن المصري القديم محمد القصبجي صاحب الأغنيات الشهيرة لأم كلثوم. ويشعر أن سيدة الغناء العربي تشاركه طريقه الدمشقي بصحبة نجاة وعبد الحليم حين يعزف وينشد العازف بحب وشجن مثل درويش في معية روحانية. تجذب الألحان السامعين فيجلسون ويغنون معه، ولا سؤال عن الأسماء والأماكن في دمشق، هويتك هي عروبتك، وحبك للموسيقى هو رابطة الدم، وحلمك بالفرح يكفي لكي تشارك الأمل في الغد. وفي الطريق إلى مقهى «النوفرة»، أشهر المقاهي التي يقصدها زائر دمشق، يمر المؤلف بسوق الحميدية التي جرى ترميمها بالتعاون مع منظمة حتى تعود للوضع الذي كانت عليه قبل نحو مائة عام لتسمح بفضاء جمالي تمرح به العيون والفراغ يمكّن من مراقبة خيوط الشمس وهي تتسلل من الأسقف لتصل الأرض وما بين السماء…
ويمتد الوصف بروح الجوال العاشق، فيذكر أنه حين تنتهي من التجوال وفي منطقة باب البريد وهي المنطقة الممتدة من نهاية الحميدية وحتى الجامع الأموي حيث تستقبلك ألوان من العصائر والأطعمة. في الحميدية لن يجد المتسوقون استراحة إلا في أشهر محلات البوظة البلدية، وهناك تجد نفسك في صورة من قلب دمشق حيث المسجد الأموي المفتوح للجميع من سياح وزوار.
ويوضح الكتاب أن «النوفرة» تعني نافورة المياه أو البحرة التي ميّزت البيت العربي الدمشقي وزيّنت قاعته وربطت أرضه بسمائه. الفسقية هنا أو البحرة تقع خارج المقهى لكنها في البيت التقليدي العربي الدمشقي تقع في قلبه تماماً. تجلس في الداخل للتأمل. بعد ساعات سيأتي الحكواتي الراوي ليعتلي كرسيه ويبدأ بالعزف والإنشاد فتميل معه الرؤوس حتى تلك التي لا تعرف الأبجدية، فالراوي (الحكواتي) بحضوره يقدم لوناً عربياً خاصاً من الأداء الإبداعي، حتى صمته له أكثر من مغزى، فهو صمت الانقطاع الذي يلملم به الأنفاس أو التمديد الذي يستدعي رداً من المتلقي. ويتحدث الكتاب عن الفن التشكيلي لافتاً إلى أنه الفن الذي «يجعلك تؤمن بأن بكل بيت دمشقي معرض». وعن المكتبات يقول: «كانت دمشق عامرة بالمكتبات النوعية وكانت خزائنها بمكاتبها الوقفية تحتوي على أنفس المؤلفات وأندر الذخائر». ويذكر جمال الدين بن نباته المصري في مقدمة كتابه «سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون» قائلاً: «كنت أعرف ببعض خزائن دمشق الوقفية أسفاراً فيها للمطالع منجع وللأفهام الناسية ذكرى تنفع».
في طريق العودة، تغمر العابرين سكينة وخشوع حين يعبرون ساحة الجامع الأموي إلى قلبه ضمن طوفان من القادمين إليه، ولكلٍّ مقصده: مصلون وداعون إلى الله وزائرون، مسلمون وغير مسلمين، أفارقة وآسيويون يستقبلهم حمام طائر ووعد بالغفران. عليك أن تمر بالمسجد الأموي فهو يشبه واسطة العقد في حبات مسبحة الأيام الدمشقية.
وأخيراً ينتقل المؤلف إلى مدينة حلب لتكون حسن الختام التي حين تسكنها يدهشك فيها أمران: ففي قلب كل حلبي ركن للموسيقى مغسول بالبهجة والطرب وفي كل زاوية من مدينته حديث للحجر ممزوج بالتاريخ والأدب! وإذا كانت الموسيقى في الحي الحلبي تصدح بكل ما فيها من شجن عاشق وحنين إلى الأصالة فإن المسافة في المدينة العريقة بين الإنسان والمكان لا يتبينها أحد لأنها لا تكاد تبدو بعد أن ألّف بينهما حي زادته السنون رصانة فأصبح كل حلبي سفير مدينته حين يتحدث وصوتها حين يغني وعقلها حين يفكر وشاعرها حين يكتب.

*الشرق الأوسط