ترجمة صالح الرزوق
تلقيت تعليمي في مدارس خاصة (القبول فيها يعتمد على المعارف) وكان لدى عائلتي مدخرات، ولذلك لم نشعر بالجوع، ولا حتى في أعتى أيام البيروسترويكا. لكن بقيت علاقاتي، مع أشخاص من خارج العائلة، ووراء أسوار المدرسة، بالحد الأدنى. حينما بلغت السادسة عشرة، وتوجب عليّ أن أحصل على جواز سفري الأول، أصرت العائلة على أن أذهب إلى السلطات بنفسي. وحدي حملت شهادة الميلاد وتوجهت إلى مكتب الجوازات المحلي، ومباشرة حولوني إلى مكتب البريد للحصول على المزيد من البيانات والأوراق. وفي البريد أعادوني إلى مكتب الجوازات لأطلب ورقة لم تكن في الإضبارة.
عدت أدراجي إلى الجوازات، ولم يقبلوا الاستماع لي ما لم أحمل إشعارا من مكتب البريد، ذهبت مجددا إلى البريد، وحاولت جهدي شرح المطلوب، وفي النهاية يئست وانفجرت بالبكاء، وسالت الدموع على وجهي. وأسرعت أجري إلى البيت، وقلبي يدق بالسخط والكره، من الوجوه المنحوتة بالحجر والصوان. فهم لم يرفضوني فقط بل امتنعوا عن القيام بواجبهم اليومي المعتاد (لم أكن قد قرأت كافكا حتى تلك الساعة، لكن بعد عدة سنوات، اطلعت عليه، وتعرفت فيه على العالم الذي أعيشه وهو يكتب عنه).
في اليوم التالي رافقتني الجدة إلى مكتب الجوازات، وتعاملت مع المشكلة بطريقتها الأزلية: التوسل واستجداء العطف. قالت للموظف: «أنا عجوز وحفيدتي مراهقة وطائشة. هلا تكرمت بالمساعدة». وشعرت بالرعب والقهر، ولم أفهم كيف أتقنت هذه المهارات بالاستعطاف. ولا أعرف شخصا يفوقها بذلك غير جدي. كان يبدأ مكالماته الهاتفية مع أي شخص له اعتبار، وليكن الصيدلي أو عامل صيانة شبكة الماء، بعبارة «آنستي العزيزة، أو أستاذي الأعز، أنا شيخ مسن جدا، جدا، ومعلول أقعدني المرض. أتوسل إليك أن تستمع لطلبي». كنت أكره هذا التذلل، لكن أستطيع الآن أن أقول إنني وجدت فيه إنسانا يستحق الشفقة، إنما كرهت أن يطلب الشفقة بنفسه من الآخرين. وكلما استرقت السمع لهذه اللهجة كان يغمرني الارتباك والخجل.
غادرت روسيا حالما أمكنني، وكان عمري سبعة عشر عاما. وفي الولايات المتحدة كان المعارف يسألونني: «لماذا قررت أن تغادري روسيا؟». لم أكن قادرة على تقديم جواب جازم. وهذا هو حالي حتى هذه اللحظة. لم أكن قادرة على التعامل مع التعقيدات التي أغرقتني بشتى أصناف الأحاسيس والمشاعر. لقد عشقت سانت بطرسبورغ، فهي مسقط رأسي.. وطني.. عائلتي هناك.. أصدقائي كذلك. وحتى اليوم لا تزال بطرسبورغ، المدينة التي ولدت فيها، تقبض على أوتار قلبي وتحرك خيالي.
بالعودة إلى بواكير الألفية الثالثة، كلما استلقيت للنوم أرى هذا الحلم.. الوقت في الصيف، وأنا في الريف وفي كوخ أستمتع فيه بالعطلة، ثم أجري إلى البحيرة الصغيرة المتجمدة، وفي طريقي إليها أختار أسماء للتلال والحفر المغمورة بالماء وجذور أشجار الصنوبر التي تنام على جانب الطريق. وأتكهن بالبهجة المتوقعة من الارتماء في حضن الماء البارد. بعد آخر منعطف – أرى البحيرة مغطاة بطبقة من الملوثات، ووراءها معمل كبير يضخ الدخان في الهواء.
لعدة سنوات متتالية كانت الكوابيس تسبق الواقع. عدت إلى روسيا بعدة إجازات، وأحيانا لفترات مطولة. وفكرت: هل بمقدوري أن أعيش هنا بعد الآن؟ هل انعدم الخوف ويمكنني الشعور بالطمأنينة؟ في بعض السنوات كنت أرى أنني قادرة على التحمل، فقد عاش والدي بأمان نسبي خلال سنوات حكم خروتشوف، وغامر بالتخلي عن عمل منتظم في مصنع وتحول لرجل أعمال، أما والدتي فقد أسعدها التخلص من حياة الخوف التي لازمت عائلتها، واندمجت في العهد الجديد، وحذت حذو والدي.
وأنهى الأصدقاء أيام الدراسة الطويلة في الجامعات، وكسبوا عملا ثابتا، فقد اتجه الاقتصاد الجديد لتوفير الفرص للشباب من أجل تسريع التطور. بعضهم اختار التجارة أيضا: وكل ما كان يلزم، على ما يبدو، روح استثمارية صغيرة، ومهارة في تخطي البيروقراطية وعصابات الدولة.
هناك لحظة اعتقدت فيها أن الأوضاع في روسيا تبدلت دون عودة، حتى حل عام 2013 وأعاد بوتين انتخاب نفسه للرئاسة، وترافق ذلك مع القمع القاسي لحركات الاحتجاج السلمية، واعتقال العديد من زعماء المعارضة، ومنهم بوريس نيمتسوف وأليكسي نافالني. تابعت الأنباء عن كثب وبالأخص أخبار حركة ريوت بوسي، وهي من أنصار تحرير الأنوثة، واعتقال أفرادها ومحاكمتهم، لكن القراءة عن الأحداث شيء، ومعايشتها على أرض الواقع شيء آخر.
كنت متنبهة حينما حطت الطائرة في سانت بطرسبورغ في شهر حزيران/يونيو من ذلك العام. وفي اليوم التالي لوصولي، توجبت عليّ زيارة مركز تحرير الوثائق الموحد لتجديد جواز سفري. رافقني الوالد – كنت ما أزال خائفة من مواجهة السلطات بمفردي. في الثامنة صباحا رأيت كل المقاعد في الردهة العريضة من المبنى مشغولة، كان البناء معمل نسيج أعيد تصميمه للتو ببذخ وأناقة. وكان الناس يملأون الممرات، ويسدون منافذ الجهة الخلفية. رغم ذلك إلى جانب المقعدين، اللذين جلسن عليهما أنا ووالدي، لاحظت شريطا حجز مساحة خاصة من القاعة لسبب غير واضح… رفعت نظري إلى والدي، ورأيت أنه يبدو أصغر مما هو عليه، ظهره محدودب، والخوف يلمع في عينيه.
*القدس العربي