كنا على مبعدة ساعة من بروفيدينس، حينما بدأت الطفلة بالبكاء، ولم تقبل المسكّن. توقفت لأفحص فوطتها وأرعاها. وكنا نأمل أن تنام ابنتنا البالغة عامين لثلاث ساعات كالمعتاد، ولكن أيقظتها هذه الفوضى. كنا ننشد للطفلة: أوب ـ لا ـ دي، أوب ـ لا ـ دي. وهكذا تسببنا بإقلاق راحة البنت. توقفنا مجددا. واعتنيت بالطفلة، أما زوجي فقد حمل البنت البالغة عامين إلى الحمام. ثم تكلمنا عن ألوان وأشكال المركبات، لأن ذات السنتين كانت تحب الشاحنات، ثم ناقشنا ماذا يجب أن نفعل في بوفالو.
في المرة السابقة، عشقت بنت العامين حديقة الحيوانات.. واقترح زوجي أن نذهب اليوم إلى مزرعة تربي اليقطين، وتنبأت أنها ستكون مغلقة، لكن بجانبها متجر للمرطبات. وألحت بنت السنتين على المرطبات، وأرادت أن تحصل عليها فورا. وللترضية والتملق قدم لها زوجي الماء والحليب والشطائر. ذهب بعض تلك المكرمات إلى فمها، ولكن سقط السمك الذهبي على الأرض. وبدأت تلتهم لقيمات من تفاحة ثم تلفظها، وهي تقول: «انظروا. أنا أطعم السمك الذهبي». في النهاية قدم لها زوجي أقلام تلوين، وبدأت تلقيها على رأسه. كان أمامنا أكثر من ست ساعات للوصول إلى بوفالو. وكان جد زوجي في عامه الـ 93. وتوقعت أن يزوره زوجي بمفرده، ولكنه أصر أن تكون الطفلة معه لتتعرف عليه. هراء لا معنى له. ولكن كانت عند زوجي قناعة تامة أنه علينا أن نكون يدا واحدة في كل شيء. أصاب أحد أقلام التلوين زوجي فقطب وجهه وقال: «لا تفعلي ذلك من فضلك يا حلوتي». لكن حصل الأسوأ وأصابه القلم التالي بين عينيه. وأصاب قلمان زجاج السيارة الأمامي، فاختل توازن زوجي وخرجت المركبة عن مسارها، واقتربت على نحو ينذر بالخطر من شاحنة تبريد. وهنا ارتفع صراخه.
وردا على ذلك بدأت بنت السنتين بالعويل. قال لها زوجي: «شششش». فارتفع صراخها لدرجة أعلى، وغطت على بكاء الطفلة، التي بدأت بالبكاء منذ 30 دقيقة. ولفت زوجي انتباهي أن قميص الطفلة مبتل، وربما هو سبب التذمر. وكنا على وشك المرور بمنفذ للخروج، فحملتها. وبعد خمس عشرة دقيقة من القيادة في أرض مزرعة ريفية، قابلتنا محطة للوقود. وكان كرسي الأطفال المثبت على المقعد بحاجة للتنظيف. وأراقت بنت السنتين الماء على نفسها، وأصبحت أيضا، بحاجة لتبديل ثيابها. وتكومنا نحن الأربعة في غرفة الاستراحة الموجودة خلف محطة الوقود.
وضعت بساط تبديل الفوط على الأرض الإسمنتية، وذهب زوجي للسيارة للبحث عن ثياب نظيفة. كانت الطفلة قد فعلتها وتسرب كل شيء من الفوطة. وما أن خلصتها من سروالها المطاطي، حتى لوثت يدي به. وكانت تكره البرد. فشرعت بالعويل والركل بيديها وساقيها، ولوثت بفضلاتها كل مكان. غطت به قدميها ويدي وجبيني. ونادت بنت السنتين تقول: «انظري يا ماما». وكانت تميل من مكانها على مقعد دورة المياه باتجاه أقرب جدار ولسانها يتدلى خارج فمها. وعندما لاحظت أنني أراها، وضعت لسانها على الجدار وبدأت تحركه على الرخام. كانت مهنتي هي الميكروبيولوجيا. فتوسلت لها قائلة: «توقفي من فضلك».
وفكرت: لماذا يجب علينا إنجاب الأطفال؟ وحملت الطفلة الباردة والباكية والمغطاة بفضلاتها، ووضعتها على صدري، وعانقتها بقوة حتى شعرت بأضلاعها وهي تندمج بأضلاعي. وكانت عندي رغبة قوية لأقول بأعلى صوت ممكن: «لا يوجد سبب واحد يجبر إنسانا عاقلا على الوقوف هذا الموقف».
ثم قلت: «نعم يا حبيبتي. أرى ماذا تفعلين. ولكن هذا تصرف سخيف، أليس كذلك». وصرفت أنظاري عن بنت السنتين ودفنت رأسي في بطن الطفلة العاري، بحثا ولو لدقيقة عن ترضية لعذابي وسخطي. كانت بطن الطفلة دافئة وناعمة. ثم انبعث من داخلها صوت كهزيم رعد خافت. مزيد من الفضلات؟
نظرت لوجهها وراقبتها وهي تضحك ضحكتها الرائعة بفم يخلو من الأسنان، لقد ضحكت. كانت حانقة طوال الرحلة، والآن ها هي تضحك. وقفزت بنت السنتين من مقعد دورة المياه وأصبحت عند المغسلة. ووجدت زاوية يمكنها أن تصل منها إلى الحنفية الطويلة، وحاولت أن ترفعها قليلا ليسيل منها الماء. ونظر زوجي لها، ثم لي ـ كانت نظرة تعجب وخيلاء. كأنه يقول: انظروا ماذا يمكن لطفلتنا أن تفعل؟ ولم يكن في ذهنه، لنقل، أنها على وشك أن تسلق نفسها بالمياه الساخنة.
قلت لزوجي: «سأعود بالبنت إلى البيت. السفر لثماني ساعات رحلة طويلة».
قال: «أعتقد أنك تبالغين».
كانت معجزة أن يعيش جده 93 عاما. ولكن أنا أبلغ ثمانية وثلاثين عاما، وتمكنت من تربية ابنتين ولم يكلف أحد نفسه بركوب سيارة لثماني ساعات من أجل أن يزورني ويطمئن على أحوالي. لا يوجد أحد يأتي بسيارته ويقود ليراني.
قلت له: «هل تود أن انقلك إلى محطة أمتراك؟». قال: حسنا. وكان الغضب واضحا على وجهه غير الحليق والذي تكسوه لحية عمرها يوم كامل.
عملنا معا على تنظيف الطفلتين وإعادتهما للمقعد الخلفي من السيارة. وجلست خلف المقود. وباعتبار أنني أهتم بالعلوم كنت مدربة على تجهيز الاختبارات بقدر ما أستطيع من الدقة، ومراقبتها وهي تجري بمجراها، ثم قبول النتائج مهما كانت. لكن أحيانا تستولي الكائنات الدقيقة على كل شيء.
يا لهذه الكائنات الدقيقة ـ إنها تتحكم بحياتنا.
أولغا زلبيربورغ: كاتبة روسية تعيش في سان فرانسيسكو.
*القدس العربي