عندما تتأمل تلك اللحية الطويلة والشارب الكث، والعينين العميقتين، عندما تحاول استنطاق الصورة التي أعطت لهذا الشيخ هيبته ورصانته، لا بد أن تدرك أن ما يكمن خلف هذه الصورة هو قصة العالم في القرن العشرين، وقصة هذا الشيخ تتأرجح بين الثورة والمأساة، بين الألم والمنفى. إنه كارل ماركس الذي أسقط عروش الفلاسفة والملوك، ونزل بالفكر من ملكوته السماوي إلى أرضه الموعودة، هناك حيث المعذبين والحالمين، هناك حيث الإنسان هو المعضلة، وهو المعجزة التي ستكتب دراما الوجود بكامل تناقضاته وآلامه.
لعل الحديث عن كارل ماركس في نظر الكثيرين، وتحديدا من أولئك الذين يدعون الحداثة ويتمنطقون بها؛ يعتبر تخلفا أو إرثا سلفيا عفا عليه الزمن، فالكثير ما زال يربط شمولية الدول الشيوعية والاتحاد السوفييتي بفلسفة كارل ماركس، بوصفه منظرا لهذه الأيدولوجية، التي ستقوم عليها ديكتاتورية البرولتاريا، أو ما يسمونه ثورة الرعاع، على حد تعبيرهم. لكن الكثير من محطات حياة ماركس وأفكاره تستحق الوقوف عندها، وإعادة قراءتها ليست بوصفها سردية كبرى، أو مركزا غير قابل للنقد والتفكيك، لكن بوصفها دواء فكريا وعلميا يعيد للإنسان تصوره الحقيقي عن العالم، ويحرره من شبح التبعية، التي ظل أسيرا لها دون وعي منه، وهنا يهمنا ماركس الثوري والأخلاقي، والفيلسوف الذي ربط الفلسفة بالعلم، وساهم بدفع عجلة التاريخ إلى الأمام، حتى أصبح لأفكاره وقع مدو في الحضارة الغربية وبسرعة قياسية جدا.
ماركس وبداية الاغتراب
ولد كارل ماركس في 5 مايو/أيار عام 1818 في مدينة تريير الكاثوليكية، لكنها لم تكن جزءا آنذاك من دولة بروسيا البروتستانية المذهب، التي ضمت إلى بروسيا الأمبراطورية أثناء حروب نابليون وقبل ثلاث سنين من ولادته. نستطيع تلمس مفهوم الاغتراب عند ماركس وهو في بواكير صباه في سن السابعة عشرة، إذ كتب خاطرة مدرسية يقول فيها «نحن لا نستطيع دوما بلوغ الموقف الذي نعتقد بوجوب أن نوصف به، وذلك لأن علاقاتنا مع المجتمع تبدأ بتأسيس نفسها، إلى حد ما قبل أن نصل إلى المرحلة التي نتمكن فيها من تحديد شكل هذه العلاقات».
وأولى صدمات ماركس في حياته كانت عندما تعرض لانهيار عصبي، وهو ما يزال طالبا في كلية الحقوق في جامعة برلين، بسبب الضربة الساحقة التي تلقاها من فشله الأدبي، فكلنا يعرف أن بدايات ماركس كانت أدبية وشعرية، فقد ألف ديوانا شعريا ومسرحية شعرية، وحتى رواية أيضا، كانت بعنوان «العقرب وفيلكس». وهنا أسدلت الستارة على مرحلة من حياته، بعد أن تحولت أقدس أقداسه إلى شظايا، واستحالت كائناته المقدسة إلى لا شيء، لم يصل ماركس إلى المملكة النائية في الشعر، واعترف بهزيمته، وبدأ بعدها يؤسس لخلق آلهة جديدة، وهو غارق في تأملاته، وما آلت إليه أحلام الشباب إلى رماد تذروه الرياح. ومن ذكريات الشباب الجميلة التي يستعيدها ماركس، مع معلمه الخاص البارون لودفيغ فون الليبرالي، ذي الثقافة الموسوعية، مع ابنته جيني فون، التي ستصبح زوجة ماركس في ما بعد، حيث كان البارون ينشد مقاطع شعرية لهوميروس وشكسبير. وظل ماركس يستعيد هذه الذكريات مع عائلته، أثناء التنزه في أيام العطل، وهو ينشد مقاطع لشكسبير وغوته ودانتي، ما حدا ببعض المحللين أن يعتبروا ماركس قد حاول الانتقام من الأدب داخل فلسفته، عندما جعل رأس المال يتكلم عبر صوت شايلوك اليهودي، أحد أبطال مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير.
ولاحقا في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844 سيكتب ماركس أعمق ما كتب عن اغتراب الإنسان في المجتمع الرأسمالي،
وأقسى أنواع الاغتراب في نظر ماركس يتمثل في اغتراب الإنسان عن إنسانيته، فيصبح غير قادر على التعبير أثناء العمل، فهنا تتم سرقة جهد العامل، وتفريغه من محتواه الحقيقي، فترتفع قيمة الأشياء مقابل انخفاض قيمة الإنسان، ومن ثم اغتراب الإنسان عن السلعة نفسها التي سينتجها، ليتحول العمل من ماهية ضرورية مرتبطة بوجود الإنسان إلى عبودية محضة.
ومن ثم اغتراب العامل عن ذاته، وعن علاقاته الاجتماعية، بوصفه نشاطا إنسانيا وقيمة فكرية عليا. وهذا ما نلاحظه اليوم في عصر السوق، والتكنولوجيا، دهشة الإنسان بالمراكز التجارية الكبرى (المولات) والسلع المنتجة من إلكترونيات وملابس، إضافة إلى مطاعم الوجبات السريعة، وغيرها من طرق الاستهلاك السريع، مقابل انحدار في قيمة الإنسان وتشوه واضح للعلاقات الاجتماعية والإنسانية، حيث لا شيء له قيمة سوى السلعة، أو المال الذي يعطي القيمة الحقيقية للإنسان، مقابل الآلة المتوحشة التي تمضي في طريقها بلا هوادة في سحق الإنسان، وإعادة تركيبه بما يلائم أيديولوجيتها الخاصة في التبعية والربح.
العالم في صراع وحركة ومستمرة
إن وعي الإنسان بمشاكله، ومشاكل المجتمع من حوله هي التي تحدد جوهر وجوده الأصيل والحقيقي. فماركس يرى أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي الإنسان، وعلميا يمكننا وضع أسبقية المادة على الفكر، والمادة توجد بشكل مستقل ومنفصل عن وعي الإنسان. إن المادية الجدلية التي أسسها ماركس هي الفلسفة التي ارتبطت بالظواهر العلمية، وبالعلم وتطوراته، وهذه الجدلية هي المحور الذي تأسس عليه تاريخ البشرية، ابتداء من أصغر خلية حية، إلى أكبر الصراعات في المجتمع الإنساني. والديالكتيك الماركسي مستمد من ديالكتيك هيغل المتحرك، بالموضوع ونقيضه، مجردا من الفكرة المطلقة، أو الروح التي تحكم العالم، ومن مادية لودفيغ فيورباخ المجردة من السكون. فكل شيء يحمل نقيضه في داخله، وكل شيء في حركة وتطور دائمين وفي صراع مستمر، فصراع الشيء ونقيضه يولد لنا مركبا ثالثا أكثر تطور من المركبين السابقين، الذي بدوره يحمل نقيضا آخر يصارع الأصلي، وهكذا فإن المادة في حركة وتطور، وتحمل في داخلها بذرة النشوء والزوال، وهذا ما يسمى بوحدة وصراع الأضداد، ثم التغيرات الكمية في المادة التي تؤدي إلى التغيرات الكيفية، بوجود المعيار المناسب، الذي يساهم فجأة بتحول المادة إلى شكل آخر، مثل الماء الذي تطرأ عليه تغيرات كمية في الحرارة، فإن المعيار المناسب بوجود درجة حرارة تبلغ 100 درجة، سيسهم فجأة بتحولها إلى حالة بخارية، أما القانون الثالث فهو نفي نفي في المادة، الذي يتمثل بوجود ضد سالب وضد موجب، يتجاذبان المادة، فالضد الموجب هو الحركة التطورية للمادة إلى الشكل الآخر، والضد السالب هو البقايا القديمة من المادة الداخلة في التفاعل.
وقد طبق ماركس مبدأ الحركة والتطور في المادة على الإنسان، والمجتمعات الإنسانية، فكان يرى أن محرك التاريخ هو الصراع الطبقي بين القوى المنتجة، وملكية وسائل الإنتاج، فالمجتمعات في حالة حركة وصراع مستمرين للتقدم، وذروة المادية التاريخية التي يتوقف عندها ديالكتيك ماركس، هو المجتمع الشيوعي الذي تختفي فيه الحكومات، والعملات النقدية. وهنا لا بد من إشارة نقدية إلى النقطة التي تنتهي بها المادية التاريخية، أو الديالكتيك، وهو نهاية مثالية يتوقف بها الديالكتيك عند العالم الشيوعي، تماما كما انتهى ديالكتيك مواطنه هيغل عند الروح المطلق المتمثل بالروح الجرمانية للأمة الألمانية.
الفلسفة بوصفها ميدانا للعمل
إن إعادة قراءة ماركس تعلمنا التفكير بطريقة علمية ومنطقية في نظرتنا للأحداث التي يمر بها العالم، من حروب وكوارث وأزمات، وما يعصف بالإنسانية من أخطار محدقة، فالطبيعة والأشياء من حولنا وكذلك الإنسان يمر بمراحل متعددة من الصيرورة والحركة، من الانقسام والصراع، ثم الولادة الجديدة، وما دام المنهج العلمي مازال يدرس ظواهر الكون والوجود، وحركة الأشياء، فإن الديالكتيك العلمي مستمر باستمرار العلم وتطوره. جعل ماركس الفلسفة على اتصال مع الواقع اليومي، ومتفاعلة معه داخليا وخارجيا، ولم يستسلم للتأملات العقلية المجردة، وما يصاحبها من ترف فكري ولغوي، كما فعل الفلاسفة أصحاب الفلسفات المتعالية، بل نزل إلى الشارع وعرف الفقر والمرض والمنفى، وتوفي ثلاثة من أطفاله، وعانى هو من مرض تليف الكبد، ومن الدمامل التي كانت تمنعه من راحة الجلوس والكتابة، أما في مدينة سوهو في لندن، فاشتدت عليه الحاجة وحاصره الدائنون من كل مكان، وحتى أثاث منزله الصغير والقديم كانت بالية ومعدمة، لكنه رغم ذلك ظل يمتاز بالحيوية والنشاط ، متسلحا بإرادة الصمود والعمل، ولم يكن ينام سوى أربع ساعات في اليوم.
رغم الأمراض والمآسي التي ابتلي بها ماركس، لكنه ظل مصرا على مواقفه ومبادئه، ولم يهادن الأنظمة والحكومات، بل كان أكثر رسوخا وثباتا في الحياة. كتب ماركس الصفحات الأخيرة من كتابه «رأس المال» في صميم محنته ومعاناته مع المرض، فكان يكتب واقفا إلى مكتبه؛ لأن طفحا من الدمامل في وركيه قد جعل الجلوس مؤلما أشد الألم، وسرعان ما وقعت عينا إنجلز على مقاطع معينة في النص تركت الدمامل آثارها عليه، ووافق ماركس أنجلز على أنها يمكن أن تكون قد أضفت مسحة حيوية على النص، وقد علق ماركس قائلا: «على أي حال آمل أن البورجوازية لن تنسى دماملي إلى الممات».
عام 1883 وبعد وفاة زوجته المخلصة جيني فون بعامين، أصيب كارل ماركس بنزلة رئوية شديدة توفي على أثرها، ولم يكن يملك سوى معطفه وأوراقه، مخلفا من بعده إرثا كبيرا ومنهجا جدليا في الفكر والسياسة، وعالما سيكون منقسما إلى معسكرين في القرن العشرين. وإذا كان سادة العصر الجديد، ومن يتحكمون بثروات الأرض يخافون شبح ماركس مع كل أزمة تعصف بهم؛ فإن روحه ما زالت تسري في أوردة العالم.. العالم النابض بالحرية والخلاص الأبدي.
*القدس العربي