أنور محمد: “بورتريهات” محمد كامل الخطيب… لا تَهتَمّ، عُدْ إلى عملك

0

في سرديته “بورتريهات” منشورات “0021” بيروت- 2022، يذهب الباحث والروائي السوري محمد كامل الخطيب، إلى الكشف عن الجوهر الأخلاقي للإنسان السوري، وعن الكوارث والفواجع التي ألمَّت به في السنوات الخمسين الأخيرة؛ فيَهينُ فيها عقلَه كما لم يُهِنْهُ عدوُّه. فنرى في بورتريهاته/ قصصه؛ تلك القوَّة العمياء التي تحرِّكُه وقد أزاح الأقنعة عنها، فيصنعُ شقاءه وبؤسه، وكأنَّ الإنسان مولودٌ في الألم.

أوَّل ما يثير القارئ في كتابه هذا هو الإهداء الذي صدَّر فيه الناقد محمد كامل الخطيب سرديته الجديدة؛ إذ يهديه إلى الدكتورة نجاح العطَّار وزيرة الثقافة السورية لأكثر من خمسة وعشرين سنة؛ مبرِّراً ذلك بالقول: لأسباب كثيرة أقلُّها ستعرفونه بعد قراءة الكتاب؛ كما يهديه لأسبابٍ إنسانية إلى الأستاذ سمير سعيفان. وكأنَّ الخطيب يَرُدُّ فيها بعض الدَيْنِ الشخصي للوزيرة العطار، دَيْنٌ مشحونٌ بالدلالات الأخلاقية والسياسية، فالوزيرة استدعته ذاتَ يومٍ وأطلَعَتْهُ على كتابٍ أخرجته من جزدانها الشخصي: “نطلبُ إليكم، إنهاءَ عملِ العاملِ لديكُم محمد كامل الخطيب لأنَّه يُشكِّل خطراً على أمنِ الدولة. التوقيع: اللواء أركان حرب عدنان دباغ وزير الداخلية”. فيبتسمُ الخطيب ويقولُ للوزيرة: لا داعي للإحراج، أو الخوف على العمل، أنا من أسرةٍ ميسورة، وحتى لا أحرجكِ فإنَّني أتقدَّمُ لكِ بطلب إنهاء العقد. ابتسمت وهي تقول: طالما أنا في هذه الوزارة، أنتَ في الوزارة. عُدْ إلى عَملكَ… لا تَهْتَمْ.

 إنَّه موقفٌ “أخلاقي”، إنَّما ذو مدلولٍ مأسوي، ستعقبه مواقف كثيرة لشخصياتٍ ذات نفوذٍ وسطوة ثَقَبَتْ سَطحَ وعُمقَ العقل السوري، كأنَّه قصبة نايٍ فتبني على أنينه؛ أنين الناس، ثرواتها وأمجادها. فيسرد لنا في إحدى حكاياته عن مثقَّف بعثي قديم، وصديق له تسلَّم بعضاً من إدارات كبريات مؤسَّسات الإعلام والمناصب الرسمية، إِذْ كان الخطيب أهداه كتابه “وردة أم قنبلة؟ إعادة تكوين سورية” لمَّا صدرَ عام 2006، والذي كما يُلخِّصه: “بأنَّ سورية على أبواب إعادة تكوين جديد، فإمَّا أن تَتَكوَّنَ على أساسٍ علماني ديموقراطي جديد، فتكون وردة المنطقة، وإما تنفجر مثل قنبلة”. وبعدما قرأه هذا المثقَّف المسؤول، قال للخطيب: هذا الكتاب يجب أن يكون في 500 صفحة، وليس 100. فيجيبه الخطيب: لو كتبته في 500 صفحة لكنتُ مُضطراً أن أقول: إنَّ سوريا قد تنقسم. فأجابه بنبرةٍ جادة، وعابساً، على غير عادته:… أُخْتُها فلتتقسَّم. فبُهتَ أخوكم الذي كفر، ولم يُجِبْ. ولمَّا صادفه الناقد الخطيب في صيف 2013 مقابل برج الفردوس بدمشق، وكانت القنبلة قد انفجرت وتتايرت شظاياها وقتلاها؛ عاد هذا المثقَّف المسؤول وسأله: ما رأيك في ما يجري اليوم في سوريا؟ فيجيبه المؤلِّف الخطيب: ما رأيك أنتْ؟ أنتَ إعلاميٌ وسياسيٌ ومتابع، وتعرف الحقائق، وما يجري فعلاً أكثرَ مني. فيرُد وهو شبهُ غاضب، وعلى غير عادته المَرِحة: ألا ترى أنَّ شعبنا قد تَحَيْوَنْ هذه الأيام أكثر من اللازم؟


(مع حنا مينة)

الباحث محمد كامل الخطيب في قصصه يرسمُ الوجهَ الأخلاقي لسلوك شخصياته؛ فهي قصصٌ لبهلواناتٍ وإن كانت في مواقع المسؤولية، لكنَّها تتصرَّف بلا إحساسٍ بآلام الناس، وقد احترفت الرياء واصطناع الفخامة لنفسها؛ إنْ في الحكي أو في الحركة، كونها ليست أكثر من عروةٍ أو زرٍ في قميص السلطة، وسرعان ما تنشف. فبعدما كانوا يمثلون الأدوار التراجيدية في المسرحية السورية كمدافعين عن “الخير”، تراهم وقد صاروا، حين ذابت المساحيق عن وجوههم وانْتُزِعَت الأقنعة، مسوخاً مثيرة للسخرية والضحك – لكن الضحك التغريبي الذي يفصل بين الضاحك وموضوعه، وهو ما يحرص محمد الخطيب على تعميقه في حكاياته؛ ليس لنتَشَفَىَّ ونثأر، لكن لنفكِّر. فيروي عن مسؤول كان في أعلى هيئة قيادية للحزب الشيوعي السوري، وسيناتوراً، في مجلس الدوما السوري أُسندت إليه إدارة مركز أبحاث فكري، مستقل، وقبل أن تنفجر القنبلة بعام أو عامين كما يروي الخطيب، زار دمشق المفكِّر الفرنسي ريجيس دوبريه؛ ومعه المستشرق هنري لورانس، وكان المؤلِّف ممَّن دعاهم المعهد الفرنسي لدراسات الشرق في دمشق، للقاء هذين المفكريْن المعروفين، وقبل أن يدخلا قاعة الاجتماع، انفرد به هذا السيناتور وقال له: أستاذ محمد، ما رأيك أن نُنسِّق الهجوم في هذه الجلسة على المملكة العربية السعودية؟ فيُجيبهُ ضاحكاً: ليس عندي أي مانع، شريطة أن نهاجم معاً إيران والسعودية. فيرد المسؤول الشيوعي وهو يضحك: لأ، هيك ما بتوفِّي معي. ويقول له الروائي الخطيب: وأنا غير هيك، والله العظيم، ما بتوفِّي معي.


محمد الخطيب وإن جنح إلى الرمز والكناية والتلميح والاستعارة في رسم بورتريهاته؛ إنَّما، وكما أشار في بداية الكتاب، أنَّ مّنْ يرسم لهم صورهم/وجوههم المائية لا تكاد تُخطئ في تسميتهم بأسمائهم، طالما أنَّك تشتغل في الحقل الثقافي، وتلعب دور الشاهد البريختي في المسرحية. فمعظمهم يُصَلُّونَ أمامَ الناس صلاة المُرائي، ليس لهم من صلاتهم سوى الحركات. وهناك بورتريه لم يرسمه الخطيب؛ بل رسمه بَطَلُه وزير الثقافة الجديد بريشته. إذ وبعد أدائه القسم الوزاري، جمع مديري وزارته في قاعة الاجتماعات وكان الخطيب بينهم؛ وألقى كلمةً توجيهيةً ممَّا جاء فيها حرفياً: هذه ليست قاعة اجتماعات، ومبنى الوزارة هذا ليس مبنى وزارة، فهو من أيام ثروت عكاشة (وزير الثقافة المركزي في عهد الوحدة السورية المصرية 1958-1961) وهو يشبه كراجات حلب. ثم يُصدر الوزير أوامره بالبحث عن مبنى جديد وأن يتهندم كلُّ موظفي وزارته فيلبسوا أفضل الألبسة ويتعطَّروا..إلخ. ثم يُفضي إليهم بما يشبه السر ليُدلِّ على مكانته وقوَّته؛ بأنَّه يوم باشر عمله مستشاراً في القصر الجمهوري العام 1998 أعطوه سيارة مرسيدس موديل 1995 فلم يقبل؛ وخَرَبَ الدنيا حتى أعطوه سيارة جديدة. وهذه الصورة عن سياساته الثقافية رسمها ووزَّعها على أصدقائه، أحد المديرين الحاضرين العام 2006. وقد تمَّ تحديثها العام 2016–2017.

ويقول الخطيب: السيد الوزير؛ مُدرِّس اللغة العربية السابق تَدَكْترَ في جائحة الدكترة إيَّاها التي اجتاحت المُتطلعين إلى المناصب الأعلى في بلادنا، ولا أحد يعرف متى، أو بماذا؟ ثمَّ صعد نجماً إعلامياً في اللاحق، ومن ثمَّ سناتوراً في مجلس السناتور، ثمَّ مستشاراً رئاسياً، ثمَّ سفيراً، فوزيراً، إلى أن حدَّثَ صورته بريشته مؤخراً، وظهرَ في صورة الناطق الرسمي باسم المُعارضة السورية.

يرسم الخطيب في بورتريهاته صوراً لكثير من المثقفين السوريين مثل الشاعر حامد بدرخان الذي كان قد اصطحبه من حلب إلى دمشق ليُعرِّفه على الروائي حنا مينة، وصوراً لأستاذه الشاعر محمد عمران في المدرسة في قريته الملاَّجة بطرطوس، والذي كما يذكر كان له فضلٌ كبيرٌ عليه. فقد شكا ذات يوم والد الخطيب، ابنه محمد، للشاعر محمد عمران قائلاً له: أستاذ محمد، رجاءً قل له أن لا يبقى إلى الصباح يقرأ، وبعدين يجي للدكان ويروح للمدرسة من دون نوم. فما كان من الأستاذ عمران إلاَّ أن سأل الخطيب: شو عم تقرا هذه الأيام؟ فيُجيبه: عم أقرأ رواية “موبي ديك” لهرمان ملفل. فيقول محمد عمران مبتسماً: كَمِّل قراءة موبي ديك ولا تروح عا المدرسة ولا تجي عا الدكان. فيضحك والد الخطيب وهو يقول للأستاذ محمد عمران: كَتَّر خيرك عا ها النصيحة يا أستاذ محمد.

إنَّها النصيحة كي يستخدم الإنسان عقله ليقرأ، ليُشغِّل غريزة التفكير، فيمارس حقَّه في التحليل والنقد، فالقراءة فعل كينونة، فعل أن أكون “حيَّاً” أو لا أكون، لأنَّها تدريبٌ على فعل احتياز الحريَّة.


في سرديته عن مرايا النفس البشرية وأبعادها: جحا، دون جوان، دون كيشوت، مدام بوفاري، موبي ديك، السندباد، شهرزاد… يكتب الخطيب وهو يبحث عن التوافق الداخلي المُدهش ما بين هذه الشخصيات في أنَّها تذهب إلى مصائرها؛ باندفاعٍ شخصي؛ إمَّا لتحقيق العدالة، أو للدفاع عن حياتها، أو الانغماس في ملذاتها أو ما يكشف عن الجوهر الأخلاقي للإنسان وهو يتصارع، وهو يصارع المصير، كونه؛ أو باعتباره قوَّة غامضة، كمن يسأل: لماذا يُعذِّبُ الإنسانُ الإنسانَ؟ ولماذا يصير الشرُّ أو تعذيبُ الإنسان للإنسان هو جوهر الحياة؟

*المدن