عندما وقعت الحرب “الربيعية” في سورية عام 2011؛ هنالك بشرٌ هربوا، وهنالك بشرٌ بقوا؛ لم يهربوا. في مسرحية “هوى غربي” نص لوتس مسعود، وإخراج غسان مسعود، على خشبة مسرح الحمراء في دمشق؛ وعلى مدى تسعين دقيقة؛ هنالك بشرٌ رجعوا، بقايا عائلة من “إرستقراطية” سبقَ وبعدَ وحدة مصر وسورية عام 1958، ومن ثمَّ ثورة 8 آذار 1963 أن تمَّ الإجهاز عليها؛ على بقايا الإقطاع والرأسمالية والبرجوازية، بما فيها مشتقاتها وأصنافها الرثَّة.
أكثر المتضررين من هذه الحرب التي لا أثر لها في العرض همُ الناس الذين على الأراضي، وليس الذين على خشبة المسرح. سوى شكر الله – الممثِّل لجين إسماعيل أحد مُحدثي النعمة الذين أثروا من التشبيح و”التعفيش”، وتحوَّل إلى أميرٍ من أمراء الحرب، والذي يُعيد ارتباطه إلى هذه الأسرة مُقدِّماً خدماته (الرانجية والهمرية)، حيث يُرسل سيارات الرانج والهمر لاستقبال هذه العائلة من المطار عندما عادت من باريس؛ وهنَّ ثلاث بنات؛ واحدة هالة – الممثِّلة نظلي الرواس، التي عادت إلى سورية بخصوص بيع ما بقي من ممتلكات عائلتها، والتي تصرف أموالاً تقترضها مقابل الرهن والحجز على الأملاك العينية لتَصْرِفُها على هواياتها ولذائذها، وثانية مريم، الممثِّلة روبين عيسى، التي طلب يدها شكر من والدها قبل أن يتوفاه الله، فَفَلَتَ عليه الكلب فعضَّه وما تزال آثار العضات على جسمه، ذلك قبل أن يتحوَّل إلى شبيِّح، لكنَّه لن يندم ويتزوجها، وثالثة، الممثِّلة مي مرهج، حبيبة عازف الكمان، الممثِّل مصطفى المصطفى، الذي افتتح المشهد الأوَّل وهو يعزف لحن أغنية “يا مسافر وحدك” لعبدالوهاب، التي بعد كل غيابها هذا مازال يعشقها (ما هذه الشخصية السلبية؟؟؟).
لكن، ومن مسقطٍ/ مساقط متعدِّدة للإضاءة، يضعنا المخرج غسان مسعود كمتفرجين في سطوح مقطع تتبدَّل عليه حركة الممثلين، وقطع الديكور، الذي صمَّمه هاني جبور، مع مصادر مُشعَّة لإضاءة صمَّمها جلال شموط. كأنَّه يحقق لقطات سينمائية. ضوءٌ يشع ثمَّ يكمد حسب تصاعد وتنازل الصراع بين الممثلين، إلاَّ شكر، الممثل لجين إسماعيل، فقد لعبَ بجسده، فكان ينقله من إسقاط إلى إسقاط، إلى فتحة باب يدل على منزل مُنعمين يتنصَّت عليهم، ثمَّ يبرِّر دخوله- دخول شاكر الوقح إلى منزل العائلة العائدة من باريس.
غسان مسعود تعامل مع شخصيات المسرحية ككتل وبروزات – أجسام، لا أرواح، خاصَّةً، جسم الممثِّل سيف الدين سبيعي الذي لم يتدرَّج في الحركة، كأنَّه مُنوَّم مغناطيسياً، لم يتحرَّك، والحركة تفقد مركزها إنْ لم تتحرَّك، مع إنَّ دوره ليس آلياً- ليس دوراً تمثيلياً آلياً، لا تَصادُم؛ وهذه مشكلة ممثِّل، وليست مشكلة مُخرج، فعلى خشبة المسرح نحن مع الفكر الحيّْ، الجسد الحيّْ، ونتتبَّعه بالضوء، الجسد يكشف أفكاره. سيف سبيعي الذي دافع آلياً عن العائلة وإرثها لم يحتجز المكان، كما الممتلكات في أعماقه حسيَّاً كممثِّل. في حين كان رستم، الممثِّل جمال قبش، ينط ويقفز، يتحرِّك داخل المكان. لقد عاد من فرنسا – أظن ليس حنيناً وشوقاً إلى سورية؛ لم نكشف على قلبه، ولكنه بقي يمط جسده، يلويه، صار نقطة ضوء تتحرَّك بتمديدات وجودية، وهو يذهب نحو الفكرة، وإن كان مختلفاً عن أولاد أخيه الأربعة، درجة الاصطدام اللطيف معهم. جمال قبش، وإن تنطنط في دوره، لكنَّه فرجانا أنَّ الأفكار يمكن أن تمتلئ بالدراما، وإن اشتغل دوره بتركيب انفعالي/ عاطفي. انفعالي كما فعلت ا لممثِّلة روبين عيسى، لكنَّها كانت تذهب من العقلي إلى الانفعالي في “مونولوغ” طويل، وإن كشف عن ألمها وقوَّة تمثيلها، لكنَّه بدا “ثرثرة” وصفية بيانية زائدة، وهي ثرثرة زادت من زمن العرض الذي كان بائساً.
المُخرج غسان مسعود في نص “هوى غربي”، وبينَ التوزيعات والتقسيمات في تدريج الزمن الروائي/ المسرحي، نرى شخصياته متفرِّقة – يفترقون، وكلُّهم ذوي صفاتٍ ووقائعَ، من أنانيةٍ، وغيرية، ونزوع إلى الحيازة والاستئثار. هُمْ سِلميون، ولكنَّهم ذوو نزوع حربي، وأكثرهم محاربةً شاكر وهالة. شاكر الذي لا مرتكزات أخلاقية عنده. بل حطَّمها ليحقق ثراءً فاحشاً على دماء الناس، وغسان مسعود تركه منفلتاً، لم يُشر إلى (كعب) حذائه، إلى نقطة ضعفه، كما كعب “آخيل”، فيرميه بسهم الموت. طبعاً أمثال شاكر لا يموتون، هم يتناسلون بصفتهم يمثلون الشرَّ والتدمير، ودائماً يلعبون أدواراً متعالية.
الكاتبة لوتس مسعود في “هوى غربي” تذهب إلى الرواية أكثر ما تذهب إلى المسرح، فمعظم أحداثها لا تُحرِّكها بواعث تراجيدية، ولا تلك الكوميدية – الكوميديا التي جاءت مُفتعلة واستجدائية من شخصية شكر، الممثِّل لجين إسماعيل ، فأغلب ما يجري من أحداث وهي روائية، تقوم على الحوار الواضح والصريح بين الشخصيات، على أنَّ ما يجري كأنَّه من قضاء وقدر، فلا تُقاوم وتُدافع عن حياتها؛ عن كرامتها وحريتها، بقدر ما تدافع عن مُتعها ولذائذها، فلا نرى تَبَدُلاً، أو تغييراً، في إرادتها. بل نرى جفافها وابتذالها – لا قضية أخلاقية، أو جمالية أو سياسية.
تشغلها، وهي شخصيات أُحادية كانت من السادة، أو العبيد. هناك خدم/ خادم عند شكر، وهو حارسه الحديدي، ولكن الغبي، وهناك خادمٌ عند رستم، وهو الممثِّل عبدالرحمن قويدر. وكل ما يجري لا نرى فيه فاجعةً؛ بل نلمس فيه الأنانية والقسوة والطمع، وليس الأفكار واندفاعات الروح السامية، أو الروح النقدية، كان الزمنُ حرباً، أم سلماً.
أين الحرب في المسرحية؟ عائلة ثرية لا معلومة عن مصدر ثرائها، فيما كان واضحاً مصدر ثراء شكر؛ ثلاث بنات متعنسَّات، وأخٌ، الممثِّل سيف الدين سبيعي، لا تهزُّه قيم الشرف والفروسية إِنْ سقطت، وَعَمٌ – الممثِّل جمال قبش، يندب شبابه وخادمٌ يحرسه، و.. شكر- الممثِّل لجين إسماعيل وخادمه. أغلبهم مُسطح الرأس، لا وعيَ سياسي، ولا اقتصادي، وسلطاتهم فردية ومحدودة. وفوق هذا سنرى أنَّ بعض هذه الشخصيات مُسرَّبة من مسرحية “بستان الكرز” لأنطوان تشيخوف. ما الذي فعلته المؤلفة لوتس مسعود؟ مِنْ قبل فعلها كثيرون، لكنَّهم أبدعوا، لنأخذ مسرحية “فاوست” لغوتة، كَمْ هي نصٌّ مسرحيٌ مليءٌ بالتراجيديا؛ والتراجيديا الفكرية، وعندما قام بول فاليري، المسرحي والفيلسوف الفرنسي بكتابتها “فاوست كما أراه”، بزَّ غوتة في “فاوسته”، وصار هناك فاوستان، بل ثلاثة، إلى جانب فاوست الكاتب الإنكليزي، كريستوفر مالرو. لم يمت فاوست غوته، كذلك شخصية “أوريست” الأسطورة التي زادها قوَّةً وحياة وخلوداً الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، وصارت بطلاً لمسرحيته “الذباب”.
المسرح شجاعٌ، سواء كانَ الصدامُ، وليس الصراعُ؛ بين ملوكٍ وخدم، أم بين آلهةٍ وبشر، أم كان صداماً مع خريطةٍ تقسيمٍ/ توزيعٍ لمشاريع الاستثمار في آخر مشهد بين (العوائل)، كما شرحها شُكر بعصاه، وهي ملوَّنةً بخطوط صفراء وخضراء و.. باعتباره فارس وممثِّل الوعي الجديد المُتبدِّل مع لون جرابه وليس حذائه، الأحمر ثمَّ الأزرق، حسب لوني ربطة عنق/ عنان الرئيس ترامب.
*العربي الجديد