ولدتُ وفي قريتي نهر
لذا كان الماءُ عادياً في حياتي ولغتي وبرجي
وكعادة القرى التي تجرحها الأنهار.. وُلِد في قريتي الكثير من الطيبين والأنقياء والشعراء.
لكنني انتبهت إليه فجأة – حين قَبّلتُ الراعية- فخرج عن مدلوله العادي.
لم يحضر بجبّته الزرقاء كما حضر باسمه.
كنت أتساءل دائما عن سر التسمية، ولم تشفني تلك الإجابات النيئة التي اقترحها العلم والجغرافيا، والتي كانت تتحدث عن جهة الجريان، فالذي كنت أعرفه أن النهر كان يذهب إلى مكان غامضٍ، يحمل رسائلي الورقية إلى الأميراتِ المتشحاتِ بالسوادِ تارةُ، وإلى الله غالباً..
عاصي..عصا…. معصية..
رنين الصاد البهيِّ كالجرس.. ربما نبّه روحي إلى ذلك الغرق الغامق في غابات اللغة، فقد كانت علاقتي مع اللغة وما زالت علاقةَ مائية،
والنهر كان بالنسبة لي معجماً للأصوات التي تثير دهشتي ولا أفهمها.
سيبتلعه البحر في النهاية.. هكذا قالوا حين سألتُ: هل سيقرأ الله رسائلي؟..
شاهدتُ فيضانه مرةً واحدةً فقط، ولكنها كانت تكفي لأعرف أنه ضاق ذرعاً بمجراه، وارتأى أن يقترب من بيوتنا أكثر..
لم يغرق أحدٌ من ابناء قريتي في النهر.. ربما لضحالته أو لرحمته، فالعاصي ليس نهراً تماماً لتعبره الزوارق، ولكن، بعد أن أتت الحرب، صادف المزارعون الكثير من الجثث المجهولة الطافية، وقُتل على الضفة واحدُ منّا.
قبل سنوات بدأت الطائرات الروسية تقصف قريتي تيرمعلة بكل ما فيها من بشرٍ وموسيقا وأنهار.. وبدأت نشرات الأخبار تتحدث عن تلك القرية الصغيرة.. لم يلتفت المذيعون والمذيعات إلى رنّة الاسم.. تيرمعلة.. تيررر… مع.. لاااااا.. صوتٌ رومانيٌ قديم.. تنفخهُ آلةٌ موسيقية اخترعها إله الشعر وسرقها إله الحرب.
كنت دائماً أتخيل أن العاصي إلهٌ ينام ولا بد أن يستيقظ يوماً ما.. وحين قصفوا القرية سقطت قذائفُ في الماء فقلت: حقاً قام.
عندما يذهب الرجال في قريتي – كل الرجال- إلى صلاة الجمعة..
يُخيّم حزنٌ مخيف على القرية
تكفُّ النساء عن الكلام وتوبيخ الصغار، وينشغلن بأعمالهن المنزلية.. وتصير البيوت كالجبال التي هجرتها النسور,
حينها يكون العاصي هادئاً
وأكون أنا وصديقي الذي يكتب الشعر أيضاً، ضيفان على الضفة،
معنا قناني البيرة والأوراق التي كتبناها مؤخراً
وكذللك بعض الخيبات..
أما في بقية الأيام، فكنت وحدي على الضفة بين الاشجار أكتب ما كنت أتوهم أنه الشعر..
والآن حينما أتذكرُ قُصاصاتي الأولى، يبكي في روحي موالٌ قديم: (صفصاف لا تنحني شرشك على المية)
فالصفصاف جرسٌ آخرٌ من اجراس الصاد.
أنا الآن في قريةٍ بعيدة بُعْدَ العمر عن العاصي وعن تيرمعلة
آلاف البحيرات.. ..
لكن الناس هنا يتكلمون لغةً لا تملكُ حرف الصاد
وأتساءلُ: ما فائدة كل الموسيقا التي صادفوها
ما الفائدة وهم لم يتوهوا وراء ذلك الصفير؟!
*خاص بالموقع