حدثان مترابطان يثيران الكثير من التساؤل، أولهما الحكم في مصر على المحامي المستشار أحمد عبده ماهر بالسجن خمس سنوات بسبب رأيه في كتاب “صحيح البخاري”، دفاعا عن الإسلام كما يعتقده صحيحاً، والثاني قرار إدارة موقع فيسبوك حظر حساب المستشار القانوني لمدة شهر! علما أن إدارة الموقع سبق لها تحذير السيد ماهر مرارا بسبب كتاباته التي وصفت بـ”المسيئة للإمام البخاري”، وطالبته بضرورة حذف مقال بعنوان “هل البخاري عاقل”؟ حيث ردّ المستشار القانوني متهكما: “هذه أول مرة ألاحظ بأن للبخاري كرامات وصبياناً في أمريكا”، ولكن بعيدا عن نبرة السخرية يحق لنا أن نتساءل حول صلاحية إدارة موقع الفيس بوك للفصل في هكذا قضايا فقهية وتاريخية، وبالتالي أهليتها للحكم في هذا الموضوع؟
بداية، ومنعاً لأي التباس، أوضح بأنني لا أكتب دفاعاً عن الإسلام ولا انتصاراً لرأي المستشار ماهر الذي أتفق معه نظريا فيما يتعلق بالإمام البخاري وصحيحه، بل أكتب دفاعاً عن حرية الرأي والاعتقاد التي ما زالت منتهكة في مجتمعاتنا العربية بحجة خصوصيتنا الثقافية أو بحجة الدفاع عن الدين، علما بأن السيد أحمد عبده ماهر هو مفكر إسلامي مهم، لكنه مثير للجدل، ليس بسبب إسلامه، بل لأنّه سَمح باستخدام العقل في التفكير بما هو يؤمن به، وليس مجرد التسليم، وهو بذلك يناقش نصوصا مكتوبة في مواجهة النص القرآني الذي يَنتصر له، وأعتقد جازما أن الموضوع جدير بالحوار والتفكير أكثر مما يستدعي العقاب والسجن، لكن إشكالية المؤمن أنه يسعى لتحصين إيمانه بما يعتقده حقيقة، نازعاً عن هذا الإيمان كل ما يمكن أن يشوب نقاءه أو يتعارض مع جوهره، وفي الفكر الإسلامي أثيرت قضايا خلافية كثيرة من داخل المنظومة الإسلامية، واحتربَ المؤمنون جراءها وانقسموا شيعاً ومذاهب وطوائف، ولا زالوا يخوضون المعارك دفاعاً عما يعتقده كل طرف أنه الإيمان الصحيح، ويمكن للباحث أن يجد سياقات مشابهة في كل المنظومات الدينية الكبرى وحتى داخل المذاهب والطوائف الأصغر أيضاً.
غير أن قضايا خلافية كثيرة تقع غالباً في دائرة الاجتهاد الثقافي أو الفكري، ومن داخل منظومة الاعتقادات السائدة، ولا تدعو لانقسام أو شقاق طوائفي أو مذهبي، وربما تكون قضية الخلاف حول مكانة الحديث النبوي في الإسلام من أقدم هذه القضايا والتي أثيرت في زمن الرسول وما زالت مستمرة حتى الآن، ولكل طرف فيها آراؤه ودفاعاته التي يجد لها نصوصاً ومواقف مؤيدة أو معارضة، دون أن تصل حدّ الخروج عن العقيدة، ويكاد يُجمع أغلب المؤرخين وأهل السنة أن تدوين الحديث لم يُعرف في حياة النبي محمد الذي رفض أن يُكتب أو يُنقل شيء عنه غير الوحي الذي هو النص القرآني، وسار الأمر كذلك حتى في عهد الصحابة وكبار التابعين، وإن وجدت استثناءات فردية لا يُعتدّ بها، وأساسها المشافهة وليس التدوين.
بدأ التدوين بمعناه الرسمي في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي أمر بجمع سنة رسول الله وما تواتر من الأحاديث عنه، كما ذكر السيوطي “وأمّا ابتداءُ تدوين الحديث فإنّه وقعَ في رأس المائة، في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره”، والذي يترجم إلى الربع الأخير من عام 718 م، لكن وفاة الخليفة الذي أنزله أهل السنة مرتبة الخليفة الراشدي الخامس أوقف مشروع التدوين، إلى أن تولّى هشام بن عبد الملك الخلافة سنة 105هـ/ 723م، وأمر بمتابعة العمل بتدوين الحديث باعتبارها سنة رسول الله.
إشكالية التدوين أنها أُسندت في أغلب الحالات، إن لم يكن جميعها، كما تشير المصادر المعنية إلى أشخاص من أسرى الحروب الذين أضحوا موالي عند عليّة القوم وقادتهم من المقاتلين ورجال الدولة، وأكثر تدوينٍ إشكالي عُرف بصحيح بخاري وهو كتاب “الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه”، لمؤلفه محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن برزوبة من موالي الجُعفي، وقد ولد عام 194 للهجرة في بخارى من أوزبكستان الحالية في آسيا الوسطى، وتوفي عام 256 للهجرة، ويُذكر أنه بدأ العمل على كتابة ولم يتجاوز 16 عاماً من العمر، وأنهاه وعمرة 38 عاماً أصدر خلالها العديد من المؤلفات.
ومع أنّ هذا الكتاب يُعتبر من أهم كتب الحديث النبوي عند عموم المسلمين والسنة تحديداً، إلا أنّه تعرّض للكثير من النقد والتشكيك في صحة ما جاء فيه، وتحديداً من قبل أعلام في الثقافة والفكر الإسلاميّين، لتعارضه مع الكثير مما ورد في النص القرآني، حيث دخلت فتاوى واجتهادات الناسخ والمنسوخ، والتأويل، إضافة لوجود أحاديث ضعيفة كثيرة، حتى أن البخاري ذاته لم يُدوّن سوى سبعة آلاف حديث منها ثلاثة آلاف مكررة من جملة ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره، وفق تأكيده، فكيف لطفل أعجمي من الموالي ولد بعد وفاة الرسول ب 183 عاماً، أن يجمع هذا القدر من الأحاديث والمرويات الشفاهية؟ ناهيك عن ضعف العديد من الأحاديث التي أوردها، وسوء دلالة بعضها!
هذا الركام الذي خلفه لنا البخاري في صحيحه، شكّل مطعنا للكثيرين ممن درسوا الحديث واشتغلوا عليه، وليس المستشار القانوني أحمد عبده ماهر الأول في هذا المقام ولن يكون الأخير، لكنّه الأكثر اجتهادا وتنوعا في الوسائل، عبر سلسلة طويلة من فيديوهات اليوتيوب، كما كتب الكثير من المقالات والدراسات أشهرها جاءت بعنوان “بخاريات البخاري”، و له العديد من الكتب المهمة بهذا الصدد: “السنة النبوية بين الدس والتحريف”، “كيف كان خلقه القرآن”، “كنوز ورحمات من القرآن”، “إسلامنا والتراث”، “الساعة – القيامة هناك فارق”، “أوهام عذاب القبر”، “ضلال الأمة بفقه الأئمة- نحو تنوير فقهنا الإسلامي”، وهو ما يُذكّرنا بالضرورة باجتهادات الراحل السوري د. المهندس محمد شحرور 1938/ 2019م. في العديد من كتبه: “الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة”، “نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي”، “الدين والسلطة: فقه المرأة نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي”، “السنة الرسولية والسنة النبوية رؤية جديدة”، “أمُّ الكتاب وتفصيلها: قراءة معاصرة في الحاكمية الإنسانية – تهافت الفقهاء والمعصومين”، والتي أثارت الكثير من الجدل في وسائل الإعلام وفي الكتب التي أرادت الرد عليه، فَنُسيَتْ كلها وبقي الراحل في ذاكرة المثقفين علامة على التنوير.
ومن البداهة أن يُعيدنا هذا الحكم الجائر الآن لما تعرض له الشيخ علي عبد الرازق بعد تأليفه كتابه المهم “الإسلام وأصول الحكم” سنة 1925، معتبراً أن الخلافة ليست أصلاً من أصول الدين، ولا داعي لوجود خليفة للمسلمين، بعدما أنهى أتاتورك الخلافة العثمانية، وبالتالي لا داعي لأن يترشح الملك فؤاد حينها للخلافة. فقامت هيئة كبار العلماء في الأزهر بمحاكمته، وهو أحد أعضائها فوجهت إليه سبع تهم بالضلال، ومع ذلك لم تقضِ بسجنه بل اكتفت بإخراجه من هيئة علماء الأزهر، ومنعته من منصب القضاء، وحتى في هذا المستوى وجِدَ في مصر بالذات اعترض عبد العزيز فهمى باشا وزير الحقانية ورئيس حزب الأحرار الدستوريين، بأن ما ذهب اليه الشيخ عبد الرازق خطأ في رأى ديني قد لا يستلزم إخراجه من وظيفته القضائية، كما أنّ هيئة كبار العلماء غير مختصة بالنظر في مثل هذا الحال، ولم يقتصر الأمر على الوزير فهمي، بل امتدّ إلى طيف واسع من أنصار حرية الفكر للدفاع عن الكتاب وعن حرية التفكير والرأي المكفولة في الدستور، وأبرزهم عباس العقاد وسلامة موسى وأحمد حافظ عوض ود. منصور فهمي.
لم ينتهِ الأمر بذلك، بل قامت وزارة الثقافة في مصر عام 2016، في الذكرى الخمسين لرحيل الشيخ على عبد الرزاق بتنظيم مؤتمر اعتُبر بمثابة رد اعتبار للكتاب ولمؤلفه، بحضور المستشار عبد الوهاب عبد الرازق رئيس المحكمة الدستورية العليا، والمهندس عصام شرف، رئيس وزراء مصر الأسبق، والدكتور هيثم الحاج على، القائم بتسيير أعمال الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة حينها، والدكتور محمد عفيفي أمين عام المجلس الأعلى للثقافة الأسبق، إضافة للدكتور أحمد زايد، عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة الأسبق، والدكتور خالد عزب، رئيس قطاع الإنتاج بمكتبة الإسكندرية، والدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه الإسلامي.
فماذا استجد خلال السنوات الخمس الأخيرة، بين مؤتمر لتكريم الشيخ علي عبد الرازق وبين صدور حكم بالسجن على المستشار والمفكر الإسلامي أحمد عبده ماهر، من قبل محكمة “جنح النزهة أمن الدولة طوارئ”، وبناء على بلاغ من محامي إشكالي يُدعى سمير صبري، يَعتقد أن مهمته الدفاع عن الدين الإسلامي ضد أي ازدراء، لذلك نراه يتباهى في إحدى المقابلات التلفزيونية أنه سبق له تقديم “بلاغات للنائب العام ضد فنانين وسياسيين ورجال أعمال يصل عددها إلى 3212 بلاغا بتهمة ازدراء الأديان.”
مع ذلك المشكلة ليست في مقدم البلاغ بل في القضاء الذي يقبل هكذا بلاغات، فإذا كان الصحابة والخلفاء وأئمّة المسلمين بمن فيهم المبشرون بالجنة قد اختلفوا في قضايا فقهية وسواها فكيف يمنع على أي شخص بعد كل هذه السنوات حق التفكير والاختلاف؟ ومن بين الشخصيات التي واجهت سابقا تهمة “ازدراء الأديان” كل من الباحث الإسلامي إسلام بحيري، والكاتبة الصحفية فاطمة ناعوت، والمفكر الإسلامي نصر حامد أبو زيد، والكاتبة نوال السعداوي، والمخرجة إيناس الدغيدي، والروائي يوسف زيدان، وآخرون كثر.
المسألة الأدهى هي تلك المادة المتعلقة بازدراء الأديان ورقمها “98 فقرة 2” من قانون العقوبات المصري، والتي تنص على أنه “يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تتجاوز 5 سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تتجاوز 1000 جنيه لكل من استغل الدين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة، بقصد إثارة الفتنة أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية.” بينما سجال المستشار أحمد عبده ماهر كان مع شخص البخاري وكتابته الضعيفة والمسيئة للإسلام، وهنا نعود إلى “محكمة جنح النزهة طوارئ” بمصرالتي لم تأخذ بعقوبة الحبس ثلاثة أشهر بل ذهب القاضي إلى الحد الأعظم للعقوبة خمس سنوات، وهذا يدفع للتساؤل عن خيارات القاضي بل ونزاهته القانونية.
خاصة وأنّ “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” اعتبرت منذ عام 2016 تلك المادة غير دستورية، كونها تعود لحقبة الرئيس المؤمن أنور السادات التي تمّ تجاوزها، كما طالبت شخصيات مصرية عديدة ومثقفون وحتى نواب سابقون في البرلمان المصري بإلغاء هذه المادة لمخالفتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ومخالفتها حرية العقيدة والتعبير المنصوص عليهما بالدستور.
وربما هي محض مصادفة أنني وقبل أيام قلية حضرت ندوة فكرية مهمه بدعوة من مركز موزاييك في برلين بتاريخ 13.11.2021، للشاعر والباحث تركي عبد الغني بعنوان “القرآن الكريم بين مقاصد التنزيل ومنهجية التأول”، تعرّض من خلالها الباحث لمنظومة الحديث النبوي، وموقع البخاري وصحيحه من الأمر، وما شابَ تلك المنظومة من مغالطات وخروج عن مقاصد الشريعة، ورغم وجود بعض ممن دافع خارج السياق عن السنة في مواجهة القرآنيين، إلا أن الحوار سار بشكل مفيد، دون الحاجة للوصول إلى القضاء أو السجن.
ففي الغرب العلماني فقط يمكن احترام كل الأديان ووجهات النظر وحرية الاعتقاد، بينما نجد أنظمتنا الاستبدادية المشغولة بمحاربة الإرهاب فقط، تذهب إلى سجن المستشار خمس سنوات لرأيه، وهذه العقوبة لا تخدم إلا السلفية الاسلامية في مصر وفي المنطقة عموما في ظل أنظمة الاستبداد العسكري، والتي تسعى لمحاربة الإسلام الأخواني بوهم تأسيس إسلام الدولة الموالي لها، والذي يغض الطرف مؤقتا عن فسادها واستبدادها، لكنه في الوقت المناسب سينقض على هذه الأنظمة ليقيم استبداده الديني.
*موقع جدلية