أنور بدر: مخاطر المعركة التركية شمال شرق سوريا

0

تستمر عملية “نبع السلام” العسكرية التركية التي بدأت يوم الأربعاء 9 تشرين أول/ أكتوبر الحالي، لاجتياح شمال شرق سوريا التي كان يطالب بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ نهاية عام 2011، لتصبح منطقة حظر طيران في البداية لحماية المدنيين الفارين من قصف النظام الوحشي. لكن المسألة تعقدت أكثر بعدما اعتمدت الإدارة الأمريكية قوات حماية الشعب الكردية Y.P.G التي أصبحت مؤخرا تعرف باسم “قسد”، ذراعا محلية لها في الحرب على الإرهاب، بعدما تلقت تدريبا وتسليحا مميّزا مكّنها حقيقة من دحر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من شمال سوريا وشرقها، تحت مظلة التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا.

هذه القوة العسكرية المرتبطة بمشروع “مجلس سوريا الديمقراطي” أو “مسد” التي أنشأها تنظيم P.Y.D، المرتبط بالحزب الأم لعبد الله أوجلان P.K.K، المصنف إرهابيا في أنقرة، يثير رعب الرئيس طيب رجب أردوغان، لحساسية المشكلة الكردية في تركيا، حتى غدا هذا الأمر مسألة خلافية مع إدارة أوباما ومن بعده ترامب في البيت الأبيض، ما يفسر ولو جزئيا التحول في سياسة تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي منذ عام 2016، حيث دخلت بتوافق مع حليفي النظام السوري روسيا وإيران في مسار “آستانة” التفاوضي الذي خلف جملة من الكوارث ما زلنا نحن السوريين نحصد نتائجها حتى الآن، فيما وصل الخلاف التركي الأمريكي ذروته في صفقة الصواريخ S 400 الروسية.

لكن يبدو أن سياق المعادلة اختلف بعد إعلان القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، بحيث أصبحت “قسد” قوة عسكرية مهمة لتنظيم P.Y.D الذي يسيطر على ثلث مساحة سوريا بما فيها محافظة الرقة، ويسعى لإقامة مؤسسات إدارية وهيكلية بديلة عن مؤسسات النظام السوري، وموازية لها من حيث العسكرة والأمن، تحت يافطة “مجلس سوريا الديمقراطية”، وهو مجال حساسية لبعض القوى السورية، لكنه مجال رفض وتخوف على الجانب التركي من الحدود.

وقد عبرت تركيا عن رفضها ذلك في أكثر من معركة، لعل أبرزها عملية درع الفرات في منطقة منبج بتاريخ آب/ أغسطس 2016 التي كان من مخرجاتها سقوط حلب بيد النظام، ولاحقاً عملية “غصن الزيتون” يناير 2018، التي أدت إلى احتلال عفرين، وتهجير سكانها الكرد تحديدا، والآن أصبحت الأوضاع مهيأة من وجهة نظر تركية، لاجتياح شمال سوريا وشمال شرقها وهو ما يجري حاليا، للقضاء على أي إمكانية لوجود نفوذ كردي في المنطقة حتى لو كان بصيغة إدارة ذاتية.

غير أن الدوافع التركية لبدء عملية “نبع السلام” الآن، ترتبط بعوامل تركية داخلية، ليس أقلها تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم، وظهور مؤشرات تفكك داخله، بالتوازي مع بوادر انكماش اقتصادي ملحوظ، إلا أنها بالأساس تعبير عن تنامي النزعة التركية لاستعادة الأمجاد الإمبراطورية السابقة للخلافة العثمانية، مدعومة بقوة أيديولوجية قومية وإسلامية، يسعى الرئيس التركي لتوظيفها في معركة خارجية يمكنها أن تغيير موازين القوى الداخلية لصالحه.

لكن هذا التوقيت لم يكن ممكنا لولا تزامنه مع ضوء أخضر أمريكي، تمثل في إعلان الرئيس دونالد ترامب سحب قواته من سوريا، في عقب محادثة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ أكد ترامب أنه “حان الوقت لتخرج الولايات المتحدة من سوريا”، مضيفا أن بلاده “ستقاتل حين يكون ذلك في مصلحتها”، مضمرا أن لا مصلحة لبلاده في حروب المنطقة التي وصفها “بالغبية” أو “السخيفة” بحسب اختلاف الترجمات.

قد لا يكون موقف ترامب جديدا، إذ سبق له بتاريخ 18 ديسمبر 2018، أن فاجأ كل الأطراف المعنية بالقضية السورية بقراره سحب القوات الأمريكية من سوريا، لكنها كانت قنبلة صوتية إن صح التعبير، أدت إلى استقالة وزير دفاعه جيمس ماتيس في اليوم التالي للقرار، وأرعبت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المتحالفة معه، قبل أن يتراجع عن قراره بعد أسبوعين.

لكن قنبلة ترامب الراهنة جاءت حقيقية هذه المرة، حتى أن ارتداداتها غطت على استحقاق اللجنة الدستورية الذي شغل السوريين مؤخرا، ومعهم جزء كبير من الأطراف المعنية بهذا الموضوع، وربما يكون ذلك أحد دوافع ترامب لإعادة خلط الأوراق، وأخشى أن يكون ما بعد هذ الاجتياح التركي ليس كما قبله، على الرغم من تناقض كثير من التصريحات الأمريكية والجهد المبذول لفرض عقوبات على تركيا.

بل يمكن التأكيد أن أردوغان اقتنص أيضا موافقة روسية، حين طمأن نظيره الروسي بوتين، قبل دقائق من قصف طيرانه لمدينة رأس العين السورية، بأن هذه العملية “ستساهم في إرساء السلام والاستقرار في سوريا وتفتح الطريق أمام العملية السياسية” التي تقودها روسيا عبر مسار “آستانة” التفاوضي، لذلك سارع وزير خارجته لافروف للقول نحن “نتفهم القلق الشرعي لتركيا حيال أمن حدودها، ونؤكد حل هذه المخاوف في إطار اتفاقية أضنة”. مضيفا “أن العسكريين الروس والأتراك على تواصل مستمر حول الوضع في شمال شرق سوريا.” وقد أبدوا استعداد روسيا لرعاية حوار تركي مع النظام وحوار آخر كردي مع النظام أيضا.

يبدو من هذا السياق أن الرئيس بوتين مطمئن في ما يبدو، أن كل غيوم هذه الأزمة ومخرجاتها ستمطر لصالحه في نهاية الأمر، وربما يراهن هو والرئيس ترامب كل من جانبه، على توريط تركيا أكثر في الملف السوري، بدلالة معارضة الدولتين للمشروع الأوروبي الداعي لوقف الاجتياح التركي لشمال شرق سوريا في مجلس الأمن، على الرغم من التنديدات والملاحظات التي تنثر في الفضاء الإعلامي من جهة، وتفهم كلتيهما للمخاوف التركية وحقها بالدفاع عن النفس من جهة ثانية.

لأن المسألة الكردية في تركيا أعقد من أن تحل بعملية عسكرية في سوريا، حيث يمثل أكراد تركيا ربما حوالى 30 في المئة من تعداد السكان، وهناك إرث طويل من الاضطهاد والتمييز حاول الرئيس التركي أن يقفز فوقه في بداية صعوده السياسي، حين منح الأكراد حقوقا ثقافية ولغوية، وسمح لأول مرة بإنشاء قناة تلفزيونية تبث طوال 24 ساعة يوميا باللغة الكردية، أكثر من ذلك اعترف في أواخر عام 2011، بمسؤولية تركيا عن مجازر درسيم 1938 التي ذهب ضحيتها وفق اعترافه ما يقارب 13 ألف كردي، بينما تشير تقارير الخارجية البريطانية في ذلك الوقت إلى 40 ألف ضحية من أكراد تلك المنطقة، ويتخوف الكرد ومعهم المجتمع الدولي الآن من تكرار تركيا لهذه المجازر، أقله في حق أكراد سوريا.

ونحن نؤكد بداية الخلاف مع تنظيم P.Y.D وتحالفاته زمن الثورة السورية، إذ عجز عن التنسيق مع القوى الكردية في منطقة وجوده، إذ أغلق المكاتب أغلبها، واعتقل قيادات منهم، وكان رافضا أو عاجزا عن التنسيق مع مكونات الثورة السورية، على الرغم من وجوده الشكلي في هيئة التنسيق سابقا، حين لم يقطع مع النظام الاستبدادي الذي ساهم في نشأته، ومنحه معسكرات تدريب وتسليح في زمن عبد الله أوجلان، لنكتشف أنه حتى الأن يسعى -برعاية روسية- لإيجاد تفاهم مع نظام الأسد بدمشق.

إلا أن ذلك لا يغير شيئا في موقفنا من القضية الكردية، ومن حقوق الأكراد في سوريا بالمعنى الوطني والقومي أيضا، ونؤكد أن المعركة العسكرية الراهنة لن تصب في مصلحة الكرد والسوريين عموما، ثم إنها بغض النظر عن أوهام القيادة التركية لن تكون في مصلحة الشعب التركي ووحدته ووحدة تركيا مستقبلا.

تحمل هذه المعركة أخطارا كثيرة على الواقع السوري وتطوراته المستقبلية، وأولى المخاطر يتمثل في مقايضة محتملة يمكن أن تسوّقها روسيا بين تركيا والنظام بشأن إدلب، مع ما يمكن لذلك أن يتركه بالنسبة إلى المدنيين والنازحين في إدلب، وهي لن تكون مبارزة على أشلاء سوريا ودم السوريين.

لكن ما هو أخطر من ذلك، أن مشاركة جزء من بقايا الفصائل العسكرية الإسلامية التي أعادت تركيا توظيفها باسم “الجيش الوطني السوري” في هذه المعركة التركية ضد أكراد سوريا، يمنح المعارك الراهنة ظلالا لحرب “أهلية” سورية لا يريدها السوريون، وهي ليست كذلك، فهذه الفصائل الإسلامية التابعة لتركيا لا تمثل السوريين، ولا تتحرك وفق أجندات وطنية سورية، إن لم نقل إنها هي التي غدرت بالثورة السورية، وذهبت بها وراء يافطة الخلافة المزعومة والمحاكم الشرعية التي أجمع السوريون والعالم كله على رفضها ومحاربتها، وليس بعيدا عن ذلك تأييد قائد النصرة سابقاً، وهيئة تحرير الشام راهناً، أبو “محمد الجولاني” لهذه المعركة ضد الأكراد.

يضاف إلى ظلال الحرب “الأهلية” مسألة أبعد تتعلق بموضوع المنطقة الآمنة كما طرحها الرئيس أردوغان في أيلول/ سبتمبر الماضي، في أثناء انعقاد الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وفق ما نشرته وسائل إعلام تركية، بأن المنطقة الآمنة التي تعتزم تركيا إنشاءها بالتعاون مع الجانب الأمريكي شمال شرق سوريا، تهدف إلى إقامة 200 الف مبنى من أجل توطين أكثر من مليون سوري لاجئ سوري في تركيا، مرحلة أولى، وستكون بعمق 32 كم وامتداد 480 كم داخل الحدود السورية، وتقدر ميزانية المشروع بنحو 26 مليارا و650 مليون دولار تقريباً، يحلم أردوغان أن تشكل توظيفات لدعم اقتصاد يبدو أنه غير معافى.

إلا أن خطة أردوغان تشير إلى مساحة إجمالية للقرى والبلدات السكنية تقدر بنحو 92.6 مليون متر مربع، فيما ستبلغ مساحة الأراضي الزراعية التي ستوزع على سكان هذه القرى من اللاجئين السوريين بنحو 140 مليون متر مربع آخر، لكن الخطة تتجاهل أن ذلك يشكل تغييراً ديموغرافياً، وفي حال حصوله لن يشكل عامل استقرار للمنطقة، ولن يشكل في أي حال من الأحوال أداة توحيد للهوية السورية المستباحة.

*المصدر: بروكار برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here