بعد روايتيّه “وصايا الغبار” و”الغرانيق”، يقدم لنا الكاتب والروائي السوري مازن عرفه روايته الجديدة باسم “سرير على الجبهة”، حيث يشكّل هذا العنوان كسابقيه، شحنة تحريضيّة للإطلالة على النّص، من خلال اكتشاف الرّابط بين مفردة “سرير” الّتي تحيل مباشرة إلى النّوم والاسترخاء أو الاضطجاع والحميميّة في مكان مغلق، كما تحيل إلى السّرْ والسرور أيضاً، مقابل كلمة “الجبهة” الّتي تحيل بالضّرورة إلى الحرب والمعارك والعسكر والقتال، فجبهة القتال هي خطوط المواجهة بين جيشين، رغم معان أخرى للمفردة لن تحضر في دلالتها ضمن الرواية، فجبهة الرأس هي المقدمة ما بين الحاجبين ومنبت شعر الرأس، وجبهة القوم سيّدهم.
سيكتشف القارئ سرياليّة هذا الرّبط بين السرير والجبهة في هذا العنوان الّذي يفضح سرياليّة النّص الروائي أولاً، باعتباره مرآة تعكس فانتازيّة وغرائبيّة الواقع الّذي يعيشه السوريون وسوريا في السنوات الأخيرة، حيث احتلّ الجيش في الواقع البناء الّذي يقيم فيه الكاتب، وحوّله إلى جبهة مع الأعداء الإرهابيين، وسجنٍ أو مكانَ تعذيب للمدنيين المعتقلين بحجّة القضاء على الإرهاب في البلدة.
ولمعرفتنا بأنّ الكثيرين ممن لم يعايشوا تلك الأحداث لن يصدقوا واقعيتها، اضطرّ الكاتب لوضع الفصل الأخير للرواية تحت عنوان “إضاءة بمثابة خاتمة”، قاصدا منها ومن العنوان أيضا، كعناصر موازية للنّص، أن تسهم بتأكيد الدلالات الواقعيّة لمجمل أحداث روايته وتوهمات الراوي، الّتي سعى من خلالها لكي يماهي في المستوى الدلالي بين بيته وبين الوطن أو المأوى وفق اللّغة الإنكليزية Home””، بحيث تتّسع دلالة تلك السرديات والأوهام من بيت الكاتب كمكان للفعل وتطور الحدث، لتشمل مساحة الوطن/ سوريا ككلّ.
فرأينا الكاتب الّذي لم يغادر مساحة شقّته إلّا في خيالاته وكوابيس الرّعب الّتي عاشها، يدخل الدبابات إلى شرفة منزله في الطّابق الثّالث، ومنه تعبر الطائرات، كما نصب الجنود تمثال البوط العسكري المقدّس في وسط الشّقة/ البيت، واستقدم كلّ الفعاليات الاجتماعيّة والسياسيّة والميلشيات الموالية في هذه البلدة والمنطقة، لتقدّم فروض الطّاعة والولاء لهذا البوط المقدّس!
يبدأ الرّاوي الفصل الأوّل من روايته بجمل تقريريّة تحدّد عناصر المكان الّذي ينطلق منه في بناء الحدث أو سلسلة الأوهام، فيكتب: “تقع الشّقة الّتي أقطنها، أنا وزوجتي الحبيبة وأطفالي الخمسة الأشقياء، في الطّابق الثّالث والأخير من بناية تطلّ على ساحة رئيسيّة مع شوارعها الممتدة إليها” ص 5، ويمضي في تلك الفقرة سارداً تفاصيل واقعيّة لشقته الّتي تسيطر على “منطقة استراتيجيّة من البلدة، لا يعادلها أهميّة سوى قاعدة الصواريخ العابرة للحقول، …وتشرف … من هناك على الحدود مع الأعداء الغاصبين، القابعين وراء البلدة، وقد أطلقت آخر دفعة منها في بداية سبعينيّات القرن الماضي” ص7، مع تأكيده لاحقا أنّ هؤلاء الأعداء الغاصبين “لم يعودوا يتحرّشون بنا، … ومن دون أن نهتمّ نحن بهم أيضا”.
لكنّ الكاتب يعود ليتابع حديثه في الفقرة التالية عن “أهميّة بنايتنا الاستراتيجيّة، على مستوى الأحلاف العسكريّة الدوليّة العابرة للقارّات، والحملات العالميّة لمكافحة الإرهاب … عندما حيكت على وطننا العزيز … مؤامرات محليّة وإقليميّة ودوليّة وكونيّة” ص7.
هذا السّرد الواقعي بنكهة سياسيّة ساخرة، ينطلق من رواية النّظام الّتي قادت تطوّر الأحداث إلى فلم أكشن/ بوليسي، موشّح بالكثير من الكوميديا السوداء، حين يخبرنا في الفقرة الأولى من الفصل الثّاني كيف: “قفز جنودنا الكوماندوس الشّجعان برشاقة على سطح بنايتنا” ص9، حيث نكتشف مع فعل “القفز” بداية زمن القص أو السّرد الحقيقيّ، أو بداية الحدث الدراميّ كما يُقال، فيما ينداح زمن الحكاية إلى بداية سبعينات القرن الماضي، بل وقبل ذلك بكثير، مع تفاصيل تعود لزمن الانتداب الفرنسيّ بل وتاريخ المنطقة الأقدم.
واعتبارا من هذه اللّحظة بالذّات، الّتي بدأت مع فعل “قفز جنودنا الكوماندوس الشّجعان برشاقة إلى سطح بنايتنا”، تنزلق تلك الواقعيّة الّتي بدأها الكاتب، باتّجاه أسلوبيّة جديدة تطغى عليها الغرائبيّة أو الـ “غروتسكيّة/ Grotesque” الّتي تنظر أو ترى الواقع من منظور حلمي أو هذياني مرضي، تتداخل فيه أحلام اليقظة مع كوابيس الرّعب، لتنتج آليات التّداعي الّتي تتوقّف عند الكثير من التّفاصيل، تفاصيل قد تبدوا في لحظة ما من القراءة غير مهمّة في تطوّر الحدث، غير أنّ هذه التّداعيات تصبح هي الحدث في سياق البناء الفانتازي للرواية، وبناء الشخصيّة الواهمة للراوي/ البطل.
إذ يستعيد الرّاوي في تلك الأحلام والكوابيس الكثير من تفاصيل حياته وحيوات شخوص روايته الحقيقيين أو الوهميين، حيوات تغرق في استعادة زمن الطفولة ومرويات أقدم تتعلّق بالتّاريخ والجغرافيا، وتصنع زمن الحكاية، لكنّه زمن يندمج في زمن الكتابة أو زمن التّذكرْ إذا صحّ التّعبير، والّذي قد لا يتجاوز أيّاما قليلة، حيث نكتشف تداخل زمن الحكاية بزمن القصّ، عندما يتساءل الراوي في الفقرة الرّابعة من الفصل الّذي حمل الرّقم 75، وفي لحظة صحو الكاتب من أوهامه السرياليّة، ليكتشف أنّ كلّ شيء في الشّقة عاد إلى وضعه الطبيعيّ: “هل كلّ ما حدث في الشّقة كان مناماً، أو بالأحرى كابوساً… لا، ليس كابوساً، فها هو النّصب التذكاري للبوط المقدّس لايزال منتصباً، وسط الشّقة، وها هو الموبايل يرن” ص 259، فرنين الموبايل يستعيدنا كقرّاء من فانتازيا المعارك العسكريّة داخل الشّقة/ الوطن وأوهام الراوي، إلى زمن الواقع ورسالة الابنة الكبرى الّتي تنبئ والدها أنّهم وصلوا إلى مصر.
فزمن سرد الكاتب لحكايته أو زمن القصّ، يمتدّ من لحظة “قفز جنودنا الكوماندوس الشّجعان برشاقة إلى سطح بنايتنا” وحتّى لحظة رنين الموبايل، وهو زمن اكتمال المأساة بالمعنى الشّخصي، من احتلال البيت إلى لحظة وصول العائلة كلاجئين إلى مصر فرارا من سطوة العسكر الّذين احتلّوا المكان بيت الكاتب/ أو الوطن.
افراغ البلاد من السّكان يقابله بقاء البوط العسكري منتصبا أو منتصرا، على الشّعب والسّكان المدنيين، بينما زمن الحكاية كما رأينا كان مفتوحا بشكل غير محدود، ومتكسّر أو متشظي، خارج سياق كرونولوجيا/ Chronology الحدث أو تتابعه، لأنّه كان محكوما منذ البداية بكرونولوجيا التّذكر، وفق تدفق سيالة الأوهام والخيالات الّتي حكمت الراوي أو الشّاهد.
هذا التّداخل بين زمن الحكاية وزمن القصّ، يحيلنا إلى تجارب روائية كثيرة، أسّست لاتّجاه مّا يعرف بتيّار الوعي كمصطلح نقديّ أو تجنيسيّ لهذا النّمط الأسلوبيّ، الّذي أشار إليه وليم جيمس منذ عام 1890، في كتابه “مبادئ علم النّفس”، مستفيدا من دراسة الكثير من التّجارب الإبداعيّة الّتي سبقت ذلك التّاريخ، ومستشرفا إمكانيّة تطوّر هذا الاتّجاه مستقبلا، حيث يستعيد الكاتب في لحظة الحدث زمن وحيوات كاملة عاشها أو حلم بها، وهو أسلوب سردي يقوم أساسا على التّداعي الحرّ للراوي/ البطل في مونولوج طويل يمتح من مخزون الخيال واللاّوعي العميق الّذي يستبطن الذّاكرة والأحلام والأوهام والمكبوت الجنسي والمشاعر وذكريات الطفولة أيضاً.
لنكتشف أثر هذا المونولوج الطويل بتشكيل الشخصيّة المرضيّة للراوي/ البطل، كأحد خيارات تيّار الوعي في القصّ، لتقديم سببيّة لتدفق تلك الذكريات والأوهام وكوابيس الرّعب، فشخصيّة الراوي/ البطل وفق المفهوم النّقدي، لا يمتلك في هذه الرواية شيئاً من مقوّمات البطولة غير كونه شاهداً يعيش تلك الأحداث بمنظوره الهذياني، وقادراً على سرد أحلامه الّتي يهذي بها، وهو نموذج للإنسان الصّغير وفق وصف “فلهلم رايش” في كتابه المهم “استمع أيّها الصغير”، حيث يستسلم هذا الفرد لقوّة القهر الّتي تفرض على عالمه وتفكيره دون إرادة منه، حتّى أنّه يفضح أو يعري ذاته في مستوى علاقته بالجنس والمرأة عموما، وفي مستوى صغاره ورعبه أمام سطوة العسكر الّذين احتلّوا بيته، لدرجة أن يدخلنا في كابوس من الرّعب حول استباحة رجولته وهو يرقص عاريا.
وليس مستغربا أنّ مازن عرفة لجأ في رواياته الثّلاث إلى تلك الأسلوبيّة كخيار وحيد، أو ربّما ممر إجباري لفضح واقعيّة المأساة الّتي كانت تعيشها سوريا حتّى قبل انتفاضة السوريين الّتي طالبت بالحريّة والكرامة، فروايته “وصايا الغبار” صدرت بداية عام 2011، وحملت نبوءة الأحداث الّتي جاءت بعيد صدورها بقليل، حيث غرائبية وشذوذ الحالة السوريّة الّتي سبق للفنّان يوسف عبدلكي أن لعب عليها في أحد كاريكاتيراته القديمة لوصف السّجون والمعتقلات العربيّة، حين استبدل اسم سوريا بكلمة “سورياليّة”، الّتي أكّد عليها هو وأغلب المثقفين السوريين، حتّى أصبحت سمة للكثير من الابداع الفنّي والأدبي في سوريا، ويبدو أنّ مازن عرفة كان من هؤلاء المبدعين الّذين اشتغلوا على رصد تلك السورياليّة السوريّة، والّتي تضخمت جدّا بعيد اندلاع الثورة المغدورة.
هذا النّمط من السّرد الروائي الّذي يغرف من مخزون اللّاوعي والمكبوت، منح الكاتب القدرة على تصوير الواقع بواقعيّة متفلتة من حدود المنطق الرياضي الّذي يحكم الواقع العياني في رتابة التتابع الزّمني للحكاية، وهو ما أشار إليه “مارسيل بروست” بخصوص روايته “البحث عن الزّمن المفقود” قائلاً: “إنّها كتاب واقعي حتّى النّخاع، كُتب بأسلوب خاص يقوم على ذكريات الماضي محاكاة لذاكرة غير إراديّة”، لكن مازن عرفة يكتب بذاكرة مملوءة بالرّعب ليحاكي فوضى وسرياليّة الرّاهن والمعاش، ويكتب بذاكرة تهذي في مونولوج طويل، لن يتمكن من البوح به في أي حوار مع الآخر، فهذا الآخر أصلا لا يمكن أن يحضر أو يقيم معه أي حوار أو ديالوغ إلاّ عبر تذكره في سياق مونولوجاته الداخليّة الّتي تشكّل بمجموعها المبنى الفنّي لعمارة الرواية.
هذه العمارة الّتي ستقودنا أثناء قراءة النّص، إلى مقاربة تعيد ترتيب العلاقة بين الواقع والخيال وبين التاريخ والرواية أيضاً، فإذا كان فعل “قفز” يحدّد زمن القصّ أو السّرد الّذي قام به الراوي باعتباره زمن حقيقي ينتمي إلى الحاضر، كما أشرنا سابقاً، فإنّ فعل “رنين الموبايل” أعادنا أيضاً إلى الزّمن الحاضر كفعل حقيقي، بالدّلالات الواقعيّة لهذين الفعلين، وما بينهما يمتد كابوس من الرّعب لايزال مستمرّا بعد ثماني سنوات من ثورة الكرامة والحريّة الموؤدة، حيث دمّر النّظام وحلفاءه كلّ أشكال الحياة وإمكانيّة العيش في سوريا، فَقُتِل واختفى أكثر من مليون شخص وفق تقارير حقوقيّة ودوليّة، فيما شُرِدَ أكثر من 12 مليون سوري بين نازح ولاجئ، ليبقى القتل والموت مستمرّا في الواقع، ومستمرّا في الرواية بدلالته الرمزيّة لاستمرار نصب البوط العسكري المقدّس، كناية على دكتاتوريّة النّظام وطغيان مؤسّسته العسكريّة، وانتصارها في مهمة قتل وإزلال السوريين، وتهجيرهم أيضا في ملحمة اللّجوء المستمرة في كلّ أصقاع العالم.
“سرير على الجبهة” نصّ صعب وسلس بآن معا، حيث استحضرت هذه الرواية الكثير من العناصر التاريخيّة، والكثير من السرديات الجانبيّة الّتي تُعرّي الواقع وكلّ البنى القائم عليها هذا الواقع، وترمي بكلّ أوراق التّوت والمقدّس والتّابوهات السياسيّة والدينيّة والجنسيّة، حتّى في مستوى اللّغة والأحلام الإيروسيّة، وإعادة تشكيل جسد المرأة من مكوّنات الخارطة السورية، إن صحّ التّعبير، رواية تشهد على الخراب القائم في العمران والمجتمع والثّقافة وغياب أي فعل سياسي، رواية الآمال المجهضة والأحلام المستباحة، بمباشرة تخلط بين التراجيديا والسّخرية، وتقول حكايتها الصّادمة بعيدا عن ورطة التّأويل.
*المصدر: موقع أوان
* مازن عرفة:
كاتب وباحث سوريّ من مواليد قطنا بريف دمشق عام 1955، مقيم حاليا في ألمانيا. يحمل إجازة في الآداب، قسم اللّغة الفرنسيّة من جامعة دمشق، ودكتوراه في العلوم الإنسانيّة، قسم المكتبات، من جامعة ماري كوري (لوبلين، بولندا)، وله مجموعة من المؤلَّفات من ضمنها: “سحر الكتاب وفتنة الصورة” و”تراجيديا الثقافة العربيّة”.
صدر له بداية عام 2011 رواية الأولى “وصايا الغبار” عن دار “التّكوين” في دمشق، كما صدر له عام 2017 رواية “الغرانيق”، عن دار هاشيت أنطوان – نوفل، والّتي أصدرت له مؤخرا بتاريخ: 16/05/2019، روايته الجديدة “سرير على الجبهة”.