في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات كان المخرج المسرحي السوري وليد قوتلي يستعد للسفر للمشاركة بمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، في عرضه المتميز “في انتظار البرابرة”، الذي سبق للمخرج وأن قدمه بتاريخ السابع من تموز/ يوليو عام 2010، في غاليري “آرت هاوس” الذي افتتح حديثا كفندق ومطعم وغاليري للمعارض التشكيلية، بعد أن كان مجرد طاحونة قديمة مهجورة على أحد فروع نهر بردى إلى الأسفل قليلاً من أطلال البيت الصيفي لثاني رئيس جمهورية في سوريا الشيخ تاج الدين الحسيني.
قصيدة “في انتظار البرابرة” لشاعر الإسكندرية من أصل يوناني قسطنطين كافافي أو كافافيس، حسب الترجمة العربية، والتي كتبها في تشرين الأول/ أكتوبر 1898، اشتغل عليها المخرج وليد قوتلي بحرفية عالية مزجت بين الفرجة والمسرح، بين التراجيديا الكلاسيكية للمسرح الإغريقي في توظيف المنشد أو المنشدة مع الجوقة، وبين الكاريكاتير الساخر في رسم شخصية الإمبراطور ومهرجه، فكان القوتلي كالساحر أو الحاوي الذي يطلق الحمامة من جيب سترته، أو يُخرج الأفعى من صدره، حين وضَعَنا في الفضاء المفتوح أمام ال “آرت هاوس” نحن المشاهدين مع دمى بشرية وجوقة من الراقصين وباقي ممثليه حاملي الدمى والأقنعة والقبعات المزركشة، مع أزياء فولكلورية ملونة، وقد صمم السينوغرافيا بنفسه ليأخذنا في لعبة بسيطة في إطار هذه الفرجة إلى بهو الفندق، ثم نزل بنا عبر الدرج إلى صالة العرض التي خلت من منصة مسرح أو مقاعد منجدة لراحة المشاهدين، حتى أصبحنا نتزاحم وقوفاً في متابعة حركة الممثلين ما بين بهو الفندق والصالة والدرج الواصل بينهما.
ومن تابع عروض وليد قوتلي سيكتشف إصراره على التجريب ومسرحة الشعر والاستفادة من معطيات التشكيل والبناء السينوغرافي، هو الذي ذهب بنا من ال “آرت هاوس” إلى قبوٍ في “غاليري مصطفى علي” في دمشق القديمة، مطوعاً المكان لاقتراحات جمالية جديدة من الفرجة، ولا أعتقد أن كثيرين يجرؤون على هذه المغامرة، التي تحتاج إلى لغة مختلفة في العرض وفي طبيعة التلقي، لغة تمتح من الموسيقى والتشكيل البصري وإيماءات الجسد التعبيرية، وقد احتكر القوتلي في الكثير من أعماله بناء سينوغرافيا العرض باعتباره جزءاً من رؤيته الإخراجية، وربما يحتاج هذا إلى المزيد من الدراسات الأكاديمية المتخصصة لدراسة أثر هذه التجارب في تطوير المسرح السوري، وما هي الإضافات التي قدمتها بشكل عام.
بعيدا عن كل ذلك، تلح عليّ الآن قصيدة كافافيس “في انتظار البرابرة”، وتاليا السؤال عن اختيار وليد قوتلي مسرحتها في تلك الفترة؟
تُلح عليّ هذا الهواجس تحت ضغط ما يحصل لنا وبنا كسوريين وفي سوريا، إذ حمل هذا العرض آنذاك نبوءة لما أصبحنا نعيشه وهو مستمر معنا خلال عقد من الزمان، ولا يزال مفتوحا على المزيد من القتل والدمار والخيبات، وهذا الإحساس بالخيبة هو مكمن الدافع لاختيار القصيدة ومسرحتها، وهو ما منح تلك القصيدة قدرة على الحياة بعد قرن من وفاة كاتبها، إذ تبدو من أكثر النصوص التي تمت استعادتها أو معارضتها أو الاتكاء عليها لصناعة تفسير أو تقديم رؤية جديدة.
وربما كان اهتمام المفكر الفلسطيني/ الأمريكي إدوارد سعيد صاحب الاستشراق معكوسا، من أهم المحطات في استعادة هذه القصيدة، حين كتب إبّان الغزو الأمريكي للعراق مقاله الشهير “البرابرة على الأبواب”، منطلقا من روح القصيدة ليدين الإعلام والسياسة في أمريكا التي تُخلّقْ وتُصنّعْ أعداء وهميين باسم البرابرة، لتبرير حربها في العراق، وغير العراق، حتى أنه وبناءً على وصيته، قرأت ابنته نجلاء هذه القصيدة في المأتم الذي أقيم للراحل إدوارد سعيد في كنيسة “ريفير سايد” بمدينة نيويورك.
واستعاد إدوارد سعيد القصيدة ثانيةً في كتابه “الأسلوب المتأخر” الذي صدر بُعيد وفاته 2006، حين اتكأ على قراءة كافافي المتميزة لملحمة “الأوديسة”، معتبرا أن رحلة عودة “أوذيسيوس” إلى زوجته “بينلوپي” في “إيثاكا” لم تكن هدف الرحلة، بقدر ما كان فعل العودة هو الدافع إلى الرحلة أصلاً، وهذا شكٌل انقلابا في دراسة التراجيديا الإغريقية، سمح لإدوارد سعيد من خلاله قراءة “في انتظار البرابرة” بمنطق جديد، وباعتبارها محاولة لاكتشاف الخيبة من انتظار كارثة لم تحصل، وانتهت القصيدة بتعبير ينضح بالخيبة: “هؤلاء البرابرة كانوا حلا من الحلول.”
كما تسللت هذه القصيدة إلى وعي وكتابات الناقد الفرنسي من أصل بلغاري “تزفيتان تودوروف”، حين خاب توقعه في كتاب “السلام بعد سقوط الاتحاد السوفييتي” عام 1990، لأن تكون نهاية الحرب الباردة والعالم ثنائي القطب، دافعا إلى السلام في العالم، حيث اكتشف صعود الاتجاهات اليمينية المتطرفة، ونظرية “هنتغتون” حول “نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات”، فنشر عام 2008 كتابا بعنوان “الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات”، للتعبير عن خيبته الكبيرة تلك، حيث نبّه “تودوروف” الغرب إلى خطر الخوف المَرَضي من الآخر، خصوصاً الإنسان المسلم، لأن الإذعان لهذا الخوف الذي أضحى رهاباً يقضّ مضاجع الغربيين يدفعهم إلى اعتبار الآخر بربرياً، ومن ثَمَّ يمارسون ضدّه سلوكيات أكثر إغراقاً في البربرية والوحشية، وأكد ذلك لاحقا في كتابه “الأعداء الحميميون للديمقراطية” 2012، مستعيدا أطروحات إدوارد سعيد في موضوع الثقافة والهوية.
لم تقتصر قراءة قصيدة كافافيس على نخب من النقاد والمفكرين أمثال سعيد وتودروف، إذ قام الكاتب الجنوب أفريقي/ الأسترالي “جون ماكسويل كوتزي” عام 1980 بنشر روايته “في انتظار البرابرة”، والتي حملت عنوان قصيدة كافافيس ذاته، مع بناء درامي وشخصيات وتاريخ وأمكنة أصّر الكاتب أن يتركها جميعاً بلا أسماء أو هوية محددة، لتصبح هجاءً للنظام العامي الجديد، والرأسمالية المتوحشة التي ينهب الشعوب ويقتل السكان في كل مكان.
بالتأكيد متحت رواية “كوتزي” من تجارب نشأته في جنوب أفريقيا زمن التمييز العنصري ونظام الأبارتايد، لكن إصراره أن تكون الإمبراطورية بلا أسم، والملك بلا هوية، حتى القاضي الذي تمرد وتعرض للسجن نتيجة تعاطفه مع السكان الأصليين كان مجرد وظيفة بلا اسم، يأتي في إطار تعميم هذه الحالة، حيث يخبرنا القاضي عن تحولاته من إنسان متحضر إلى آخر يُعارض هذه الحضارة التي جعلت من الآخر عدوا باسم البرابرة، وأقنعت نفسها أن هؤلاء السكان الأصليين البسطاء يشكلون خطرا على الإمبراطورية، لذلك يجب القضاء عليهم.
وقد اعتبرت رواية “كوتزي” من أهم الروايات المعاصرة، خاصة وأن مؤلفها نال جائزة بوكر للرواية مرتين، ثم حصل عام 2003 على جائزة نوبل للأدب، ومؤخرا تمّ إنتاج هذه الرواية فيلما سينمائيا في 2019، بتوقيع المخرج الكولومبي “سيرو غيرا” وبطولة “جوني ديب” حاملاً اسم “في انتظار البرابرة” أيضا، وهذا الخيار يشكل امتدادا لخيار المخرج في فيلمه السابق “عناق الأفعى” 2015، من حيث الاهتمام بموضوع العلاقة بين الغزاة وبين السكان الأصليين.
فيما الشاعر السوري بشير البكر اختار في ديوانه “عودة البرابرة” الصادر عن “دار النهضة العربية 2014″، أن يعارض كافافي بل يعاتبه في بشأن عدم عودة البرابرة قائلاً:
“كذبت رؤياك أيها الشاعر/ كنت تظن أنهم أشباح في البعيد/ خدعت العامة حين قلت لهم/ لن يأتي البرابرة/ لكنهم خرجوا من بيننا/ في غفلة القصيدة”.
فالجنود العائدون من الحدود قالوا في قصيدة كافافيس: “أنه ما عاد للبرابرة من وجود”، فيما برابرة بشير البكر الذين ظهروا في سوريا لم يأتوا عبر الحدود، وليسوا من خارج البلاد، هم خرجوا من داخلنا ولذلك يسميهم البرابرة الأهلين، هم البعثيون والطائفيون وكل الغزاة الذين دخلوا سوريا لاحقا واستباحوا دم السوريين، البرابرة الأهلين هم من غزوا سوريا وارتكبوا مجازر القتل والتهجير والتدمير.
كما ضمّن بشير البكر ديوان “عودة البرابرة” الكثير من مراثي الحزن على الغياب وعلى البلاد وعلى الأهل وعلى الموتى:
“مرّ الربيع الثالث / ولم نكفن موتانا بعد/ نما الزرع تحتهم/ وهم ينتظرون في العراء”
ففي ظلِّ استمرار الحرب واستمرار الموت، لن تجد الجثامين من يدفنها:
“في نهاية المطاف / لا حاجة لنا/ كي نحفر قبورنا/ طالما أن الحرب لم تنته”
كتب البكر قصائده ومراثي حزنه خلال الأعوام الثلاثة الأولى من الثورة المغدورة في سوريا، والبرابرة مستمرون بعد عقد من الزمن بالقتل والتدمير، بعد أن صنعوا من شعبهم عدوا لهم واتهموه بالبربرية والإرهاب.
أعتقد جازما أن كثيرا من الكتاب تورطوا مع قصيدة “في انتظار البرابرة”، وربما كثيرون منهم لم تسعفنا الظروف لقراءة منجزهم أو حتى القراءة عنهم، وبكل الأحوال لن يتسع المقال هنا للإحاطة بهم جميعا، لكن الجولة التي قمنا بها كافية لنغوص أعمق في تلافيف هذه القصيدة التي اتكأ عليها وليد قوتلي قبل أشهر من الانفجار الكبير في سوريا، ليعري هذا الإمبراطور في زي بهلول أو درويش يتشبث بكرسيه، ومعه كل رجالات السلطة أو حاشيته ضمن جوقة المنتظرين، الذين داهمتهم الخيبة حين عرفوا بأن البرابرة لم يعد لهم وجود، فقد كانوا حلا من الحلول.
طبعا لم يكن أحد من مشاهدي عرض القوتلي عام 2010 ينتظر قدوم البرابرة، لكننا جميعا كنا بانتظار الخروج من مأزق حياتنا المستمر منذ خمسة عقود وما يزال، وربما هو إحساس بعض اللبنانيين الذين كان لسان حالهم يقول “انتداب يا محسنين” بحسب تعبير الصديق عمر قدور، إثر زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لبيروت.
وهي مسألة تتعلق بعجز الشعوب عن التغيير في ظل سطوة النظام العالمي المدان أخلاقيا وثقافيا، عجزها عن صنع مستقبلها وحماية مصالحها وتحقيق أحلامها، مع إدراكنا لضرورة مقاومة الإحباط بالمستوى الشخصي والعام، ضرورة الهروب من اليأس القاتل لنا جميعا، وربما تتوالد هنا مساحات الانتظار، هو ليس انتظار تلك الأنظمة التافهة التي تبحث عن برابرة يأتون لإنقاذها من مستقبل المجهول، مع أن طرفي المعادلة باتوا في تلك اللعبة من الانتظار، وربما يكون انتظارنا أقرب إلى انتظار “صموئيل بيكيت” في مستوى اللا معقول، وهو الرد المتاح نفسيا بأقل تقدير، على غياب أي معقول ممكن في ظل الراهن القاتم للسوريين ولشعوب المنطقة.
*****
“في انتظار البرابرة” نوفمبر 1898
قسطنطين كفافيس / Constantin Cavafy
لماذا ننتظر كلنا، هنا في الميدان؟
لأن البرابرة يصلون اليوم.
لماذا لا يحدث شيء في مجلس الشيوخ؟
كيف يجلس الشيوخ ولكنهم لا يسنون القوانين؟
لأن البرابرة يأتون اليوم.
فما معني أن يسنّ الشيوخ القوانين الآن؟
عندما يأتي البرابرة، سوف يضعون القوانين.
لماذا صحا الإمبراطوْر مبكرا اليوم؟
ولماذا يجلس على عرشه، مزينا بالتاج، عند البوابة الرئيسية؟
لأن البرابرة يصلون اليوم
والإمبراطور ينتظر ليرحب بقائدهم،
وقد جهز كل شيء ليقدم له شهادة فخرية، مليئة بالألقاب والأسماء الهامة.
لماذا ظهر قناصلنا وحكامنا اليوم
في مسوحهم الحمراء الموشاة؟
لماذا لبسوا أساور مرصعة بالجواهر، وخواتم
من الزمرد البراق؟
ولماذا يمسكون فرحِين بالعصي
المشغولة بالفضة والذهب؟
لأن البرابرة يصلون اليوم
ومثل هذه العصي تخلب لبّ البرابرة
أين خطباؤنا المفوهون
ليلقوا خطبهم مثل كل يوم؟
لأن البرابرة يأتون اليوم
وهم يملّون الخطب وتضجرهم البلاغة
لماذا هذا الفزع والقلق الآن؟
“ترتسم علامات الجدّ على وجوه الناس”
لماذا تقفر الميادين؟
لماذا يعود الجميع إلى بيوتهم
وقد استبد بهم الغم؟
لأن الليل قد أقبل ولم يأت البرابرة
ووصل بعض جنود الحدود وقالوا
إنه ما عاد للبرابرة من وجود.
والآن؟ وبدون البرابرة، ما الذي سيحدث لنا؟
هؤلاء البرابرة كانوا حلا من الحلول.
*الناس نبوز