الديكتاتور شخص عادي غالباً، ليس عبقرياً أو خارق الذكاء، كما يدّعي، وقطعا ليس غبياً كما يتخيل خصومه، لكنه بالتأكيد يمتلك قدراً من الخبث والانتهازية، بحيث يتمكن من التضحية بكل شيء من القيم إلى العلاقات وحتى الأشخاص المقربين منه أيضاً، في لحظة إحساسه بأنهم باتوا يشكلون عائقاً أمام تحقيق طموحاته الشخصية، وإن كان هتلر وموسيليني نماذج صارخة لذلك، فربما يكون حافظ الأسد خير نموذج لشخصية عسكري اعتلى منصة التاريخ كواحد من أسوأ الديكتاتوريين في العصر الحديث.
إذ كان على الأسد في لحظة ما من تبلور فكرة السلطة لديه، ومن إدراكه أهمية الانقلابات العسكرية التي حكمت سوريا بُعيد الاستقلال، أن يوظّف الخبث والانتهازية من أجل إنتاج سردية مناسبة تدعم صيرورته الديكتاتورية، وتهيئ لاعتلائه مسرح العبث السياسي في سوريا، وهذا ما عكف عليه مبكراً، بالتزامن مع سيطرة الانقلابات العسكرية، إذ كان أصغر ضابط في اللجنة العسكرية التي تشكلت في القاهرة زمن الوحدة مع مصر برتبة نقيب، وكان ممنوعاً من الطيران في تلك الفترة، كما يذكر خليل بريّز في كتابه “سقوط الجولان”، لكنه استطاع من خلال مشاركته في كل الانقلابات اللاحقة لزمن الانفصال، أن يستبعد الجميع ليبقى ديكتاتوراً وحيداً في بلد أضاع هويته.
وقد كلفه ذلك الكثير من الادعاء وتزوير الحقائق والمعلومات أو إخفائها وصولاً إلى الكذب، بدءاً من تغيير كنيته العائلية من “الوحش” إلى “الأسد”، وهذا ممكن عموما في سجلات “النفوس” أو “دائرة الأحوال المدنية”، لكنها لن تتغير في المحيط الاجتماعي والذاكرة الشعبية للناس بذات السهولة، لذلك كان عليه تقديم سردية متكاملة لنسب جده “سليمان الوحش” بأنه كان على قدر من القوة الجسدية، بحيث إنه الوحيد الذي أنقذ قرية “القرداحة” التي وصلها من المجهول، لينتصر على المصارع التركي العظيم، أو الشرّ الذي كان يُكدّر صفو الناس فيها!.
ففي منطقة القرداحة عائلات متميزة مادياً واجتماعياً ودينياً كآل الخير وإسماعيل وعثمان، وأغلبهم ملاك أراضٍ كبار، وبعضهم شكل إقطاعاً بمفاهيم تلك الحقبة، لكن آل الوحش بالتأكيد ليسوا من هذه العائلات المعروفة، إذ لم يستطع أحد أن يعرف لهذه السلالة أبعد من الجد سليمان، والذي لم يعرفه أحد إلا باسمه الأول فقط كما تقول السردية الرسمية دون أي لقب أو كنية، قبل تلك المبارزة التي منحت سلالته لاحقا لقب الوحش، ليصبح هذا الوحش وسلالته بقدرة قادر من وجهاء المنطقة ولهم تاريخ ومرويات ومآثر.
يَعرف كثير من الدارسين أو المطلعين على علم النفس، أنّ الإحساس بالنقص هو أحد أسباب الادعاء بالكمال، وربما يشكل هذا الأمر أحد التبريرات النفسية الكامنة عند حافظ الأسد لصناعة سردية القوة التي أنقذت الجميع، وأصبح لزاماً تطويب هذه السردية في وجدان الأجيال القادمة من السوريين، ومنحها مصداقية تتناسب مع تنامي نفوذ الأسد وسيطرته داخل المؤسسة العسكرية، فلجأ إلى المؤرخ البريطاني باتريك سيل الذي سبق أن اشتهر في كتابه “الصراع على سوريا”، ليقوم بمهمة توثيق سرديات الأسد في كتابه اللاحق “الأسد والصراع على الشرق الأوسط”، والذي تقمّص فيه دور مفتي السلطان، حين وثق الكثير من سرديات الأسد الكاذبة، في محاولة إكسابها بعداً حقيقياً وتاريخياً.
مع أنّ سردية المصارع والقضاء عليه تبدو أنسب لحكايات الأطفال في سذاجتها، وأعجز من كونها سردية تؤسس لتفسير تاريخ الدول، فهي وكل ما تضمّنته من عناصر القوة الجسدية في المبارزة وفي إطلاق النار، وفي تفاصيل أخرى لا يوجد لها أي سند تاريخي صحيح، ولم يُقرّ بصحتها أو بسماعها أحدٌ من سكان المنطقة، كما أنها بعيدة عن واقع تلك المجتمعات الريفية البسيطة، والأخطر أنها تنال من أهمية هذا الشخص الذي ظهر فجأة من المجهول في قرية ريفية في الساحل السوري البسيط، ليكتسب من خلال قوته الجسمية أهمية تتعدى أهمية الثروة والانتماءات العشائرية والنفوذ الديني.
لذلك بدأت عملية تطوير تلك الحكاية، فإذا كان الجد سليمان قد امتاز بالقوة الخارقة، وهي ثيمة مهمة لديكتاتور المستقبل، فإن ابنه علي سليمان الوحش يجب أن يمّتاز بالدراية وشيء من الحكمة والمعرفة السياسية، باعتبارها من ضرورات الديكتاتورية العتيدة، فكان والد حافظ متعلماً ويجيد القراءة والكتابة، ولديه اشتراك في ذلك الزمن بجريدة تصله إلى بيته بالقرادحة عبر البريد، وهنالك في هذا البيت خريطة للعالم يتابع عليها هذا الشخص، ومعه أو عبره كل البلدة، تطورات الحرب العالمية الثانية، دون أن يَعرف أحد كيف تعلم هذا الوالد القراءة ولا أين؟ خاصة أنّ ثمانية من أولاده الأوائل لم يدخلوا المدرسة ولم يتعلموا القراءة والكتابة في ذلك الزمن.
كل هذه التفاصيل شكلت الإطار الخارجي للصورة التي يجب أن يسكنها حافظ أسد، وهنا بدأت الكذبة الكبرى والتي جرى تعميمها عبر الكثير من مواقع التواصل والوكيبيديا المفتوحة ومراكز أو صفحات إعلامية أنشئت لهذا الغرض، ولا تزال متاحة لمن يريد المتابعة، وهي تتضمن شيئاً من الحقائق ضمن كمٍّ هائل من الديماغوجيا، كأن نعرف بأنّ حافظ علي سليمان الوحش وفق قيده المدني من مواليد 1930، ومع ذلك نال شهادة البكالوريا أو الثانوية العامة الفرع العلمي عام 1952، أي كان عمره 22 سنة، وفق وثيقة الشهادة التي قدمت لمؤرّخه البريطاني موقّعة من ثانوية جول جمال في اللاذقية، وتتضمّن حصوله على علامات كاملة في كل المواد!
ولا أعتقد أن باتريك سيل يمتلك من السذاجة ما يحول دون إدراكه عدم صحة هذه المعلومات، مع ذلك دعونا نقول بشيء من حسن النية إنّه لم يشأ أن يرهق نفسه بالسؤال والتحقق من مصداقية هذه التفاصيل المتداولة بكثرة بين العديد من رفاق حافظ وأبناء منطقته، والذين سُجن كثير منهم في فرع فلسطين أو التحقيق العسكري أو في سجون المزة وتدمر قبل أن يتحوّلوا إلى سجن صيدنايا العسكري الأول، وساهموا عبر هذه السجون والمعتقلات بفضح تلك السرديات الكاذبة، وأهمها أنّه في عام 1952، لم تكن توجد أي ثانوية باسم جول جمال في سوريا، إذ استشهد هذا البطل الوطني جول جمال في عملية انتحارية عام 1956، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، ومن باب التكريم لبطولته أطلق اسمه لاحقاً على مدرسة ثانوية في مدينته اللاذقية.
ومن يتابع القصة أكثر يَعرف أنّ حافظ رسب لسنتين متتاليتين في الشهادة الثانوية، ولم يكن له علاقة بالتفوق، مما اضطره للتسجيل في ثانوية خاصة كانت تُدعى “كلية بانياس الوطنية”، في بلدة بانياس التابعة لمدينة اللاذقية، قبل أن تتحول بعد تأميمات البعث عام 1963، إلى “ثانوية الحرس القومي” الخاصة، ولم تتوقف الكذبة هنا، بل يمكن أن نتابع في كثير من المصادر، أنه رغم علاماته الكاملة في الفرع العلمي، لم يتمكن من الالتحاق بكلية الطب في جامعة القديس يوسف في بيروت لأسباب مادية واجتماعية، لذلك ذهب إلى الكلية الحربية في حمص عام 1952.
ورغم التحاقه بالكلية العسكرية في حمص، فإن كذبة عرضية صغيرة ظهرت خارج هذا السياق، تُفيد أنّ حافظ أسس في العام ذاته أول تنظيم لاتحاد طلبة سوريا في محافظة اللاذقية، وتذهب بعض المرويات المغالية للقول إنه رأس اتحاد طلبة سوريا، حيث يستغرب أي عاقل مجرد التورط في كذبة تبدو نافلة في سياق هذه السردية، لكنها تفضح عقدة النقص لدى هذا الديكتاتور من العلم والمتعلمين، لدرجة أن شقيقه رفعت أسد حين كان قائد سرايا الدفاع، نصب له على طرف معسكر السرايا في المزة جبل، وبإطلالة على طريق بيروت الجديد، تمثالاً بمقاييس غير متناسقة، لكن المهم في هذا التمثال أنّ حافظ الذي أصبح رئيس سوريا يحمل في يده كتاباً مفتوحاً!
لكن، وبالعودة إلى سردية العائلة عبر المرويات الموالية، نقرأ أنّ عائلة علي سليمان الوحش انتقلت عام 1949 من القرداحة إلى مدينة اللاذقية، حيث استأجروا غرفةً واحدة في أحـد المساكن، مما أتاح لذلك الطفل المعجزة أن ينخرط في النشاط السياسي، بما يتعارض مع مرويات الكثيرة بأنّ حافظ علي الوحش قبل ذلك انضمّ لحزب البعث عام 1946، بعدما أسس أول خلية له في اللاذقية، أي قبل حصوله على شهادة الثانوية بست سنوات، بل الأدهى أنه شارك بتأسيس حزب البعث العربي قبل أن تضاف إليه لاحقة الاشتراكية، الذي عقد مؤتمره التأسيسي في دمشق بتاريخ 7 نيسان 1947، وإن افتقدنا أي وثيقة تدعم ادعاءات هذا الطفل المعجزة ومروياته، فإن الوثاق المتأخرة تؤكد أنّ حافظ ساهم بتصفية كل قيادات الحزب المدنية والعسكرية والتخلص منها، بدءاً من اغتيال اللواء محمد عمران في مدينة طرابلس اللبنانية، وصولاً إلى ملاحقة صلاح الدين البيطار إلى منفاه في فرنسا، فيما افتتح عبد الكريم الجندي مسلسل الانتحار، كأول المنتحرين في قائمة ستطول لاحقاً.
انقلاب 8 آذار 1963، قاده مجموعة ضباط ناصريين بالتحالف مع اللجنة العسكرية للضباط البعثيين، والذي جاء رداً على الانفصال، لكن الضباط البعثيين الأكثر تنظيماً وطمعاً بالسلطة حاولوا عبر التعيينات العسكرية استبعاد الناصريين عن كل المواقع الحساسة، مما دفعهم لمحاولة انقلاب فاشلة في تموز من العام ذاته، بحيث هرب جاسم علوات قائد الانقلاب إلى مصر وسجن محمد النبهان بعدما ألقي القبض عليه، واستفرد البعثيون بالسلطة كاملة. غير أنّ المصادر الرسمية لسلطة البعث تهمل تلك التفاصيل، وتطوب 8 آذار باسمها فقط، وهي كذبة يعرفها أغلب المهتمين بالشأن العام السوري، لكنها لا تظهر على السطح.
وفي طيات كذبة الثورة تلك، قام البعث بتسريح آخر دفعة من طلاب الكلية العسكرية الذين التحقوا عام 1961، واستعاض عنهم بدفعة بديلة من المعلمين وبعض صغار الموظفين ممن ينتمون لحزب البعث، مع ميول مناطقية وطائفية ظهرت لأول مرة، في المؤسسة العسكرية، وكان بينهم رفعت الأسـد وعبد الله طلاس، وعرفت هذه الدورة بدورة البعث الأولى، وجرى تخريجها بعد سنة ونصف فقط. وخطورة هذا الإجراء أنه شكّل مقدمة لتحويل المؤسسة العسكرية من جيش وطني محترف إلى جيش عقائدي يعمل بديلاً عن حماية الوطن والدفاع عنه، إلى حماية أهداف الثورة، التي هي نظرياً أهداف حزب البعث، وفي مراحل متقدمة لحماية الأسد ونظامه العائلي فقط.
حين حصلت هزيمة حزيران 1967، كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وهو الذي أصدر أمراً بالانسحاب الكيفي من جبهة الجولان المحصنة بشكل جيد، وأنصح بقراءة كتاب خليل بريز “سقوط الجولان” الذي التقيته مرتين في السجن، ولا يتسع المجال هنا لسرد الكثير من تفاصيل الكذب الذي عشناه، وأهمها أن الإعلام السوري أكّد أنّ نظام البعث انتصر، لأنّ إسرائيل كانت تهدف من وراء حربها إلى إسقاط النظام التقدمي في دمشق، ولكنه نظام صامد ولم يسقط، رغم احتلال إسرائيل لمحافظة القنيطرة والجولان السوري الذي يشكل أضخم خزان مياه حلوة في المنطقة.
كنت حينها طالباً في المرحلة الإعدادية، والتحقت مع الكثير من زملائي بدورة تدريبية في الجيش الشعبي، الذي شكّل لجان الدفاع عن الوطن وحماية الثورة، وأجرينا رمي خمس طلقات من بارودة إنكليزية، أرعبت إسرائيل في لحظة انتصارها، لكن الأهم ما قاله نقيب في الجيش الشعبي حاضر فينا عن نظرية الانسطاح الزيتي، فلو نحن ملأنا سطحاً ما واسعاً بالماء، وأضفنا إليه قليلاً من الزيت، فإنّ هذ الزيت سيتبعثر في السطع المائي الواسع بحيث يشكل بقع صغيرة غير ذات أهمية، لذلك لو نحن سمحنا للإسرائيليين الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين باحتلال كل المنطقة العربية التي يتجاوز عدد سكانها مئة مليون عربي، فإنّ إسرائيل ستنتهي بالتأكيد ككمية الزيت الصغيرة في سطح مائي واسع، وهي النسخة الأولى من النظرية التي طورها البعثي الآخر صدام حسين قبل سقوطه المدوي، بأنه لن يحتاج لمحاربة الأمريكان، فالواوية سيأكلون الطيارين الأمريكيين!
السؤال هل يحق للرئيس أن يكذب؟ .
أعتقد وفقاً للطبيعة البشرية يمكن لأي شخص أن يكذب، لكن الرئيس مهما كانت جنسيته لا يحق له الكذب، لأنه يمثل شخصية اعتبارية، مع ذلك نجد في التاريخ كثيراً من الرؤساء والمسؤولين في العالم ارتكبوا هذه الجناية، حتى في أمريكا نجد العديد من الفضائح التي حدثت لكن النظام العام يحاسبهم، وقد اضطر الرئيس نيكسون للاستقالة نتيجة فضيحة وترغيت، كما دفع بيل كلينتون مستقبلة السياسي في فضيحة ليوينسكي “Lewinsky scandal”، مع غرامة مالية بلغت 90,000 دولار، نتيجة إقامته علاقة جنسية مع متدربة في البيت الأبيض تدعى “مونيكا ليوينسكي”، لم تكن المشكلة طبعاً في حدود العلاقة الجنسية التي هي حرية شخصية في أمريكا، بقدر ما هي في كون الرئيس حنث بيمينه وحاول أن يعرقل سير العدالة، ولا يزال مستقبل الرئيس السابق دونالد ترامب ينتظر القضاء.
إلا أننا في بلادنا نجد الرئيس دوماً يحاسب شعبه على عدم الوفاء له أو إطاعته، فمتى نرتقي إلى حدود الديمقراطية التي تحاسب كل من يسيء أو يكذب، وتحديداً في المجال العام، فمتى يمكن أن نحاسب السيد الرئيس على كل ما اقترفت يداه وكل أسطورة الطفل المعجزة التي دمرت سوريا والسوريين؟
*الناس نيوز