منحنا الكاتب الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز غواية كبيرة لاستعارة عنوان روايته “قصة موت معلن”، في محاولة لقراءة ما جرى في تونس ليل الأحد 25 يوليو/تموز، لجهة التأكيد أن كل ما جرى كان يتم بشكل علني في الفضاء السياسي لتونس، مع أن البعض رأى في قرارات الرئيس قيس سعيّد انقلاباً على الشرعية ومؤامرة على الديمقراطية، فيما رأى البعض الآخر أن الضرورة هي التي استدعت هذه الإجراءات القسرية، غير أنه وفي كلتا الحالتين كانت حظوظ المفاجأة قليلة.
فمنذ أبريل/نيسان الماضي ظهر خلاف حاد بين الرئيس قيس سعيّد ورئيس الحكومة هشام المشيشي، مدعوماً من رئيس البرلمان راشد الغنوشي، حول مسؤولية الجيش والأمن من قبل رئيس الجمهورية أم من قبل رئيس الحكومة، وظلّ الخلاف معلقا لغياب المحكمة الدستورية التي نص دستور 2014، في “الفصل 148ـ 5” على تأسيسها، على أن يُعيّن أو يُسمّي كل من رئيس الجمهورية ومجلس نوّاب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء أربعة أعضاء ليكتمل العدد إلى 12، وجاء في نص المادة أن يتم هذا التعيين خلال عام من إعلان الدستور.
الفشل الإداري
غير أنّ سنوات من الفشل الإداري والعجز التنموي، في ظلّ تفاقم الأزمة الاقتصادية بالتوازي مع فشل ذريع في مواجهة موت الناس المحمول على جائحة كوفيد 19، بعدما سجّلَ أكثر من 550 ألف إصابة ونحو 18 ألف حالة وفاة، لم تلق أي استجابة من حكومة المشيشي أكثر من إقالة وزير الصحة، ما ساهم بتعميق الأزمتين السياسية والصحية، فرد الرئيس التونسي يوم الجمعة 23 يوليو/تموز بتكليف إدارة الصحة العسكرية في الجيش التونسي مهمة إدارة جائحة كوفيد-19، ورفع سوية التلقيح لدى التونسيين، كما مدّد العمل بقانون الطوارئ لمدة ستة أشهر إضافية تنتهي في 19 من يناير/كانون الثاني 2022.
وفي ليل الأحد 25 يوليو/تموز بعد يوم من المظاهرات الشعبية التي اجتاحت البلاد احتجاجاً على الاستعصاء الذي يعيشه التونسيون في المستويات السياسية والاجتماعية والصحية، فَعّلَ الرئيس قيس سعيّد المادة 80 من الدستور والتي سمحت له حسب اجتهاده، وهو مختص بالقانون الدستوري، أن يذهب إلى تجميد عمل البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه وتنصيب نفسه نائبا عاما للبلاد، أي عطل السلطة التشريعية أولاً، ثم جمع بيده السلطة التنفيذية والقضائية.
بغض النظر عن قبولنا مبادرة الرئيس قيس سعيّد وإجراءاته الأخيرة أو رفضنا لها، فإنّ دور الإعلام من وجهة نظري المتواضعة تقتضي البحث في تفاصيل الحدث، الأسباب والنتائج، سير الأمور واحتمالات تطورها، كما قرأنا في بعض مصادر الإعلام الغربي عموما، لكننا وبكل أسف فوجئنا بأغلبية الإعلام العربي ينحو منحى أيديولوجي في التعاطي مع الموضوع، ويتعامل بيقينية مذهلة تؤكد أن ما حصل هو انقلاب على الديمقراطية، مع خلافات بين من اعتبر هذا الانقلاب لصالح قيس سعيّد الذي صُنّف في خانة فلول نظام بن علي، وبين من اعتبر الأمر برمته مقدمة لسيطرة الجيش التونسي وبدء مرحلة استنساخ تجربة السيسي في مصر.
ومع أني لست بصدد نفي أيّ من هذه الاحتمالات، لكنني أعترف بعجزي عن امتلاك اليقين الذي يتحدث به البعض، ممن يُحسبون على التيارات الإسلامية أو بعض اليسار العربي، مما يشي بالعمق الأيديولوجي المؤسس لهذا الوعي الذي يمتلك قاعدة صلبة في فهم ومعرفة كل شيء، مع أن مساحة المحاججة وقراءة التفاصيل تبقى أوسع من ذلك اليقين، الذي يسوق نفسه بالخوف على التجربة الديمقراطية، أو بالانحياز لهذا الطرف أو ذاك، أو بإعطاء أحكام القيمة لما يجب أو يلزم بعيداً عن النسغ الأخضر لشجرة الحياة.
لعبة الانتخابات البرلمانية
فإذا كانت الإشكالية في حدود لعبة الانتخابات البرلمانية، فإن الرئيس قيس سعيد هو منتخب أيضا بشكل ديمقراطي وحر، خاصة وأن المؤسسة العسكرية في تونس كانت، وحتى تاريخه، مؤسسة وطنية بالمعنى الاحترافي لوظيفتها في حماية الوطن والدفاع عنه ضد أي اعتداء خارجي، ولم تنزلق إلى الحزبية السياسية كمثيلاتها في بعض العواصم العربية التي تبنّت فكرة الجيش العقائدي، قبل أن تتحول في نماذج كسوريا والعراق وليبيا واليمن إلى مؤسسة تجاوزت تبعيتها حدود العقيدة السياسية، لتصبح تابعة للأسرة الحاكمة، تدافع عن استمراريتها واستمرارية مصالحها ضد الشعب حتى لو اقتضى الأمر تدمير الوطن، والمثال الفاضح في شعار: “الأسد أو نحرق البلد”.
أما المحاججة بخصوص غياب المحكمة الدستورية، فعلينا أن ندرك أن حركة النهضة بقيادة الغنوشي حكمت تونس منذ لحظة فرار الرئيس السابق بن علي بعد 28 يوماً من الاحتجاجات المطالبة برحيله، لتذكرنا أنه قبل يوم واحد من توجهه إلى السعودية كمنفى اختياري له، أعلن عن إقالة الحكومة وتكليف محمد الغنوشي رئيساً لحكومة تصريف الأعمال، وحل البرلمان والإعلان عن انتخابات مبكرة وإعلان حالة الطوارئ في البلاد وحظر التجول لأجل غير مسمى!
وإثرَ رحيله أعلن المجلس الدستوري رسمياً شغور منصب الرئيس، ما سمح لرئيس مجلس النواب المحلول عملياً فؤاد المبزّع أن يكلّف محمد الغنوشي باقتراح تشكيل الحكومة الجديدة، والتي أُعلن عنها في اليوم التالي، ما مهد الطريق أمام حركة “النهضة” للفوز بأول انتخابات ديمقراطية للبرلمان المؤقت في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، لأن الحركة ورغم السنوات العجاف للعمل السياسي، كانت الأكثر تنظيما من كل القوى السياسية الأخرى، وكانت تحمل في عباءتها إرث المظلومية السياسية التي أقصتها عقوداً عن لعبة الديمقراطية والانتخابات، دون أن نُغفل أثر التدين في الحاضنة الاجتماعية للتونسيين، مع دعم لوجستي إعلامياً ومادياً من قبل أنظمة إقليمية يتوجس أغلبها من أية رياح ديمقراطية قد تهب على خيمته، فيما لم يستطع البعض الآخر أن يُخفي مآربه الأيديولوجية.
هل هي مجرد مصادفة أن يُرشح رجالات العهد البائد الغنوشي وحركة النهضة لقيادة تونس إثر الربيع العربي الأول في المنطقة، حيث خرج التونسيون يطالبون برحيل نظام بن علي؟
دستور 2014
وبغض النظر عن الجواب أقول أنّ دستور 2014 أقر تشكيل المحكمة الدستورية كما أسلفت، وكانت حركة النهضة هي المسيطرة بشكل كامل قبل هذا التاريخ وبعده، بل كانت مسؤولة مباشرة عن تعطيل كل مؤسسات الدولة وإضعافها لتبقى هي المسيطر الوحيد، في مؤسسة أعماها الفساد، وربما الدليل الأكبر على عماء قيادة “النهضة” يبرز جلياً في كل ردود أفعالهم على قرارات الرئيس سعيّد، والتي تنال من تونس ومن التونسيين.
هؤلاء التونسيون ذاتهم الذين خرجوا مؤخراً وسمعناهم يَستعيدون شعار الثورة الأول بصيغته المحدثة، يطالبون برحيل الغنوشي والإسلام السياسي معه، بعد أن ذاقوا مرارة الذل التي أوصلتهم إليه حركة النهضة خلال 11 عاما من الاستبداد والفساد، والذي لم يستطع حتى زملاء الغنوشي في قيادة النهضة تحمله، فغادروا مركب الحركة وكل مكاسبها التي بدأ القضاء أخيرا يتحرك باتجاه التحقيق فيها، ناهيك عن التلاعب بالانتخابات وتصفية المعارضين أمثال شكري بلعيد ومحمد براهمي اللذين اغتيلا في منزليهما تباعا في فبراير/شباط، ويوليو/تموز 2013.
أعتقد أن على الإعلام أن يسمع صوت التونسيين أولاً، وبشكل خاص “الاتحاد التونسي للشغل” الذي بقي محافظاً على هويته الاجتماعية والوطنية التي أهلته للعب أدواراً سياسية هامة في التاريخ التونسي، رغم أنه تنظيم نقابي وليس حزباً سياسياً، لذلك لم يُعارض قرارات الرئيس سعيّد لكنه طالب بتوفير ضمانات دستورية لها، وجدول زمني يضبط إيقاع هذه الإجراءات بهدف تأمين المسار الديمقراطي، رافضا اللجوء إلى العنف من أي طرف، موضحاً في بيانه “التدابير الاستثنائية التي اتّخذها رئيس الجمهورية وفق الفصل 80 من الدستور توقّيا من الخطر الداهم وسعيا إلى إرجاع السير العادي لدواليب الدولة”، كما دعا بخصوص المؤسّسة العسكرية، إلى “وجوب النأي بها عن التجاذبات السياسية”، إيماناً منه بعراقة هذه المؤسّسة ووطنيّتها “وتمسّكها غير المشروط بحماية أمن البلاد والعباد”.
*الناس نيوز