نزل الطاهر بن جلّون (1944) مع عائلته، من مسقط رأسه مدينة فاس، وهو لا يزال فتى عام 1955، إلى مدينة طنجة، المتعددة الأعراق في حينه، والكوزموبوليتية، لم يكن يدرك، أنّ المدينة وأجواءها المنفتحة سوف تورّطانه في تجارب متفاوتة الحدّة، وسوف تحملانه، آخر الأمر الى الكتابة والتأليف الشعري والروائي.
ولئن كان بديهيّاً القول إنّ التجارب تصهر جوهر الكائن، وتمدّه بالكثير من المعاني، فإنّ نضال الشاب الطاهر بن جلّون وهو لا يزال طالبا، وسجنه عام 1965 مع رهط من رفاقه، في سبيل قضايا مطلبية عديدة، ما لبث أن اتّخذ له الأدب مجالاً، ومنبراً ذا امتداد وأصداء وفاعلية، ورمزية خاصّة في آنٍ واحد. ولم يكن مستغرباً أيضا أن يخطّ تجربته الأدبية باللغة الفرنسية، ويكون زميلاً للعديد من الكتّاب العرب الفرنكوفونيين، ممن لم يتوانوا عن معالجة قضايا شعوبهم (المغربية) الملحّة، من أمثال رشيد بوجدرة، والكاتب ياسين، جمال الدين بن شيخ، وألبير ميمّي، عبد الوهّاب مودبّ، وبو عالم صنصال، جان عمروش، ومحمد ديب وآخرون. ومن دون أن يتخلّوا عن تراثهم الأصيل، أو يتغافلوا عن مشاكلهم اليومية ولا سيّما مواجهتهم العنف الناجم عن التعصّب في الرأي أو المعتقد الديني، أو الدفاع عن حقوق المرأة سواء في موطنها، أو في المغترب.
بين زمنين
وإن كان الطّاهر بن جلّون يندرج في سياق مجايليه والمتقدّمين عليه من الكتّاب المغاربة الفرنكوفونيين، فإنّه اختطّ لنفسه سبيلاً بات يُعرف به؛ انطلاقًا من الرمزية الشفيفة والعالم المتخيّل المستلّ بعضه من سيرة الكاتب أو مما عرفه (“طفل الرمال”، “ليلة القدر”، على سبيل المثال) اللذين يعالجان إشكالية وضع الأنثى في المغرب ونضالها من أجل حفظ مكانتها، مروراً بالمراوحة بين مكانين وزمنين، هما مكان المنفى الاختياري في الغرب ومكان الذاكرة (المغرب) ووصف ما يحمله الوطن من سيَر ذات دلالة على عالم لا يزال طيّ الرواية، وتراث يتحكّم بحاضر الشخوص بعد تحكّمه بماضيهم، وسرد مسرى العادات والعلاقات المتشابكة بين الأشخاص ، وتظهير الفروق بين الماضي الطفولي البريء والحاضر الغارق في تعقيدات الحياة المعاصرة. وصولاً الى تركيزه على ظاهرة الفساد، مقروناً بجرم الاغتصاب، يطيحان بما بقيَ من قيَم في نفوس الشخصيات، فيبلغان بها ، بلسان “سامية” المغتصبة، قبيل انتحارها، أقصى حالات الانتفاض على ازدواجية المجتمع في التعامل مع الأنثى، ومسؤوليته الصارخة عن قتلها المعنوي والمادي، فتقول ، وهي الشاعرة: “أولاد الريح/ يعبرون الليل/ على أجفان الفتيات/ اللواتي دُفن سرّهنّ في ثمرة صيف/هو نواتها/ العسل والمرارة” (ص:198).
إذاً، في الرواية الجديدة للكاتب المغربي الطاهر بن جلّون، بعنوان “عسل ومرارة”، والصادرة عن دار الساقي (2022) مترجمة الى العربية (أنجز الترجمة الكاتب أنطوان سركيس)، يلتفت الروائيّ الى مسألة ربما لم يشبعها في أعماله السابقة، عنيتُ بها الفساد وسليله الاغتصاب. الشيّق والجديد للقارىْ العربي، في مستهلّ الرواية، هو تخلّي الكاتب عن الراوي الوحيد المفرد، وإيكاله الحكي الى كلّ شخصية على حدة، بحيث تتعدّد وجهات النّظر الى العقدة الواحدة، حاملةً معها خلفيّاتها وآراءها، وناسبةً الى مجتمعها وبيئتها ونوعها الجندري أيضاً، ما يؤيّد هذه المواقف، ويطلق نقاشاً حادّاً في شأنها.
في الرواية هذه خمس شخصيات تتقاسم مأساة واحدة، بل فاجعة واحدة هي انتحار سامية ابنة مراد ومليكة، بسبب تفاقم شعورها بالعار والخوف من افتضاح أمرها، وهي ذات الستة عشر ربيعاً وقد غرّر بها شابّ بداعي إعجابه بالقصائد التي تكتبها، وزعمه السعي إلى نشرها، فانتهى الى تخديرها واغتصابها في شقّته. على انّ لسامية هذه حضوراً في مشاهد بعينها، تحضر وحدها، على خشبة الحكي، شأن الشخصيات الأخرى، وتروي، في مونودراما صادمة، تحوّلها من فتاة حالمة بالمستقبل إلى “فتاة في السادسة عشرة معنّفة في جسدها وفي روحها على يد وحش شبق وسمج وعنيف” (ص:204)، فلا يعود أمامها سوى الانتحار بالغاز.”إفتحي صمام الغاز، ستثملين ببطء، سترين الأشياء تدور من حولك وتزدريك”.
صراع المجتمع المغربي
أما شخصية مراد، وإن تكن الأولى من حيث ظهورها في الرواية، فهي تمثّل إلى حدّ ما، جيل المغاربة الذين ولدوا مع استقلال بلادهم، وهم على قدر من الثقافة الغربية الأوّلية، وقد تدبّروا وظائف في الدولة، ومكانة في المجتمع المغربي المحافظ. ولئن بدا مراد، في منطوقه ومونودرامه المتتالي، حيناً بعد حين، متقاعداً عجوزاً متضايقاً من الإقامة في منزل متهالك، فإنّه لا يني يستحضر، مستعيناً بثقافته الغربية، الفنية والأدبية، ماضي مدينة طنجة الكوزموبوليتاني، والمرفّه، والمتوازي مع الحياة الغربية (الفرنسية) بكلّ مظاهرها ومفاتنها. وإذ يعاود مراد الظهور، في مشهدياته المتتالية حتّى ختام الرواية، يتكشّف للقرّاء ناقماً على زوجته مليكة، ناسباً إليها ادّعاء عجزه الجنسي. بعد أن كان باع نفسه لشيطان الفساد، في موقعه الإداري، طمعاً بالمال الذي لطالما كانت امرأته تدفعه إليه دفعاً كلّما أظهرت ضيقها من ضآلة راتبه ومن إصراره على نزاهته “غير المفيدة”.
أما شخصية فياد، الشاب الموريتاني ذو البشرة السوداء، والخرّيج الجامعي الباحث عن رزقه في المغرب، فتحكي عن فئة، لا بأس بها، من الأفارقة الذين ضاقت بهم بلدانهم، وميّزت تمييزاً عنصرياً ما بين أعراقهم وألوان بشرتهم، وقذفت بهم برّاً، إلى بلدان المحيط، شأنه هو، وبحراً إلى شواطىْ أوروبا تتلقّفهم أحياء أو أمواتاً، غرقى في لجج المتوسّط، دونَ آمالهم في النجاة والعيش الكريم بعد كفاح في التعلّم والإعداد المهني. وفي السياق التصادمي الآنف، بين مراد ومليكة، يبرز فياد عامل تصالح وإعانة للعجوز(مراد) في حلّه وترحاله، وفي سائر الأعمال المنزلية التي تطلبها منه سيّدة المنزل مليكة. “أغسلُ الأرضية، أكنسُ بالمكنسة الكهربائية التي كثيرا ما تتعطّل، أتولّى التسوّق، أعيد معي دوماً الإيصالات. سيّدتي تدقّق في كلّ شيء” (ص:132).
مأساة وحرية
تبقى شخصيتان، قليلتا الحضور، في الأقسام الأخيرة من الرواية، عنيتُ بهما منصف، شقيق سامية الأول، الأصغر منها بسنوات معدودة، والمدرك غيابها، وموتها المأساوي، ثم شقيقه الأخير آدم، تمثّلان، من وجهة نظر الكاتب، تطلّع الأجيال المغربية الشابة إلى الحرّية، ونبذ التطرّف الإسلامي، والأخذ بالنموذج الغربي في العيش واللباس والفنون والآداب وغيرها. على أنّ المشهد الخامس والأربعين والمتعلّق بالأخوين آدم ومنصف معاً – والرواية مقسّمة 49 مشهداً- ينطوي على ذروة درامية لافتة، يروي فيها الأخوان كيف أنّ والدتهما مليكة توفّيت، وأنهما تولّيا دفنها، وكيف أنّ والدهما، مراد، أعترف لهما بأنّ انتحار ابنتهما سعاد كان قد سرّع في تدهور صحّتها، وأنه كان عازماً على الانتقام لابنته وقتل الشاب المتهوّر، مغتصبها، لكن “لم تكن لديّ الجرأة. منعتني تربيتي. نالت منّي. فانهار كلّ شيء في علاقتنا انهياراً نهائياً” (ص:236)
لا تحمل الرواية بعداً أسلوبيا واحداً فحسب، متعلقاً بتعدد الأصوات أو ما بات معروفاً في الغرب بالبوليفوني، وإنّما تتعدّاه الى أبعاد كثيرة أخرى، منها مناقشة فكرة العبودية، والنّظر المعمّق إلى الفساد باعتباره من طبيعة الإنسان المغربي، والإنسان بعامة، والمقارنة ما بين ماضي البلاد (المغرب) الجميل حيث كان الاختلاط بين القوميات والجنسيات المختلفة (الإسبانية، والفرنسية، والإيطالية) والأديان المختلفة (اليهود، والمسيحيون) جاذباً الازدهار والحيوية والغنى، وبين حاضر صانع للتعصّب والقمع والقتل باسم الدين، والعودة إليه تحت وطأة الترهيب والترغيب – عودة زليخة، حبيبته القديمة، إلى الإيمان، ومثلها امرأته مليكة، بعد أن كانتا تنتقدان الأديان والمتديّنين.
هذا، ولم يجر الكلام على استراتيجية أثيرة لدى جلّون، عنيتُ الترجّح بين زمنين متباعدين، الزمن الماضي المستعاد عبر تقنية الفلاش باك، وزمن القصّ الحاضر، القريب من الزمن الواقعي،( الأم مليكة وزمن زواجها عام 1985، والإبنة سعاد عام 2000، وهي تروي بعضا من سيرته الحاضرة)، من دون أن يعود الى خطّية سرده التي وضعت المشاهد في سياقها الطبيعي، حتّى موت الوالدة ودفنها، وانصراف الأخوين منصف وآدم إلى حياتهما خارج المغرب، وحسن انتقال فياد، الموريتاني، الى إنكلترا، ويحدد موعداً له مع خطيبته ليستأنفا حياتهما هنالك.
للكاتب الطاهر بن جلّون العديد من الاعمال الشعرية والسردية، المترجمة الى لغات العالم الحية، والتي نال لبعضها العديد من الجوائز العالمية مثل “غونكور” و”الأركانة العالمية”، ومن هذه الأعمال: “مأوى الفقراء”، “طفل الرمال”، “يوم صامت في طنجة”، “ليلة الغلطة”، “تلك العتمة الباهرة”، طأن ترحل”، “السعادة الزوجية”، “الاستئصال” و”حرودة”.
*اندبندنت