ممدوح عزام: أنا البحر

0

كان حافظ إبراهيم غاضباً من اتهام اللغة العربية بالعجز عن مواكبة العصر، حين كتب قصيدته التي يقول فيها “أنا البحر في أحشائه الدر كامن/ فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي؟”. ولكننا لا نعلم فيما إذا كان يعرف أنه بقدر ما تبدو المعادلة سهلة في التأليف الشعري، فقد نلقى كثيراً من الصعوبات حين ننزل إلى أرض الواقع، أو نغوص إلى أعماق البحر. وحتى اليوم لا تزال التحديات محرجة. منها مثلاً تحدّيات العامية، بل العاميات، وهي لهجات تنحدر في معظم ألفاظها من معجم الفصيح، ولكنها ترفض نحوه وصرفه وإعرابه كلّه. 

ولا يقتصر الأمر على الشِّعر الذي قدّم أسماء اشتهرت في العالم العربي مثل بيرم التونسي وصلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودي والرحابنة وطلال حيدر ومظفّر النواب، بل تجاوز ذلك إلى القصة والرواية، ففي قصة يوسف إدريس “جمهورية فرحات” لا نقرأ حواراً بين الراوي الذي يتحدث بالفصحى، والصول فرحات الذي يتحدث بالعامية وحسب، بل نقرأ حواراً ضمنياً بين الفصحى والعامية: ترى هل يمكن أن نجد معادلاً في الفصحى للتعبير عن الحالة النفسية أو الفكرية لشخصية الصول؟ 

وثاني تلك التحديات هو المعجم العربي نفسه، فلا يزال المعجم الرسمي يحرّم أو يحظر دخول المفردات أو المصطلحات الجديدة إليه. ولا تزال آليات الاستقبال أو الرفض التي تتخذها اللغة غامضة أو تحتاج للمزيد من البحث والدراسة، فقد تستقبل اللغة العربية هذا المصطلح الأجنبي وتحتضنه فيغدو جزءاً من بنيتها ومن حياتها، وتنبذ ذلك المصطلح الأجنبي وتدير ظهرها له. فالسيارة والطائرة والدراجة والقطار مصطلحات اشتقت من العربية وتغلبت على أصولها الأجنبية الدالة التي تقابل المعنى، بينما ظل التلفزيون والراديو والإنترنت متفوّقين على المصطلحات التي حاول اللغويون أو المعجميون ابتكار معادلات لها دون جدوى. 

وفيما استمر الفيروس يفتك بنا دون أن نتمكن من ابتكار اسم آخر له، أو نعثر على لقاح أو علاج مناسب ونهائي، عثرنا على مفردة الجراثيم العربية، كبديل عن البكتيريا، وبجانبها عشرات الأدوية غير المعرّبة. 

أما الدكتاتورية فقد استطاعت العربية استبدالها بمفردات أخرى كالطغيان والاستبداد وحكم الفَرد في القاموس فقط، بينما عجزت عن التخلّص منها في الواقع، بل إننا نشهد بين فترة وأُخرى هجوماً لغوياً جديداً يستهدف التغيير في هذا المضمار، فيعيد المستبدّون استخدام البيعة بدلاً من الانتخابات التي أدخلها أحمد فارس الشدياق منذ القرن التاسع عشر إلى مفردات اللغة العربية، فيما ظلّت الديمقراطية صامدة في القاموس، لا تتغيّر ولا تتبدّل، ولا تستطيع مفردة أن تحل محلها في رأس مطالب الثورات والانتفاضات العربية. 

وربما كانت المفردة الأكثر حضوراً في الكتابة السياسية العربية، ولكنها عجزت حتى يومنا هذا عن الاستقرار في المجتمعات العربية. اللافت أن بعض القواميس التي دخلت على نظام “وورد” ترفض قبول بعض الاشتقاقات الجديدة فتضع خطاً أحمر لتحذيرك حين تكتب “اللامعقولية”، على الرغم من أن هذا الاشتقاق يعتبر من أشد الصفات التصاقاً بالواقع العربي المعاصر. من الصعب أن تلوم البحر إذا كان الغواص يخشى السباحة. 

(العربي الجديد)

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here