في كتابه ” لماذا الشعر” الصادر عن هاربر كولنز برس في نيويورك، يقدم الشاعر والناقد الأميركي ماثيو زابرودر اقتراحات عديدة لطرق الكتابة الشعرية وأساليبها. مانيفستو طويل لطرق استخدام الشعراء للغة وتقنيات التعبير عن أفكار أكثر أهمية بطريقة أجمل من تناولها بالنثر العادي. وبرأيه: “كلما كتبت أو قرأت الشعر، سترى بوضوح أنه لم يكن هنالك شيء اسمه “اللغة الشعرية”، فمعظم الكلمات في القصائد هي نفسها التي نجدها في أي مكان آخر”. تأتي طاقة الشعر، في المقام الأول، من إعادة إحياء وتنشيط اللغة التي نعرفها. تبدو الأفكار أحياناً كثيرة بعيدة المنال، وبشكل من الأشكال، المزاج والفضاء العقلي، أو طريقة التفكير. النثر، بعد كل شيء، يفعل ذلك، ويمكن أن يكون جميلاً أيضاً. وكيف يمكنه أن يجعلنا أقرب إلى ما هو حيوي ومراوغ، وما لا يمكن تفسيره. يكتب عن صياغة كيتس للقدرة السلبية، دواء لوركا، وعن الأحلام المثالية للشعراء السورياليين وتميز القواميس.
الآن في الكتابة المعاصرة اختلطت كثيراً طرق الكتابة. وعندما يتعلق الأمر بالشعر، فإن ما يميزه عزلته المؤقتة على الأقل. لا نحتاج عادة إلى التفكير في أسباب قراءتنا لشيء ما: نحن نفهم الفرق بين قراءة الرواية وقراءة الصحيفة، مع العلم أنه يجب أن نبحث عن شيء مختلف في كل تجارب القراءة. القصص والروايات تخلق الشخصيات والمواقف وتروي حكاية ما. الصحافة تنقل المعلومات، وتشارك المقالات في هذا الجهد الذي يصعب تصنيفه. حقيقة لا أحد بإمكانه أن يخبرنا عن سبب كتابة القصائد والغرض من الشكل والإستعارة والصور؟ وعندما يتم طرح مثل هذه الأسئلة سيفكر ماثيو فيما كتبه بول فاليري في “الشعر والفكر التجريدي”، على أن القصيدة هي نوع من الآلات التي تقوم بصناعة الحالة الذهنية الشعرية عن طريق الكلمات . وربما يبدو مصطلح آلة صادماً هنا. يصوغ الشعر شيئاً ما، آلة صغيرة، هي أقرب إلى الحلم، حلم يقظة. ويميز فاليري الشعر عن أشكال الكتابة الأخرى، من خلال قوة التأثير العاطفي والذاتي. تتمتع “لغة الشعر” باللايقين وتأثيرها المؤقت، تعطي لنفسها معنى، ومن ثم تذكرنا القصائد بالقدرة الخارقة للغة على ربط العالم كله من حولنا في حلقة واحدة. تظهر المهمة الأساسية بالإصرار والإعتماد على العلاقة المضطربة للكلمة وما يمثلها: الضعف، الإثارة، الهشاشة، والنقص، كل ذلك هو نوع من الإستعارة لعلاقتنا الخاصة باللغة والعالم. التفكير المجازي نسخة كهربائية لكل استعارة، نختبر هذا الإتصال من خلال القراءة، لتصبح الطريقة التي نفكر بها. الإستعارة في الشعر ليست ديكوراً، فهي تقوم بتفعيل الطاقة الكامنة المحتملة للكلمات، إلى جانب التذكير بخطورتها المثيرة، وإمكانية أن يكون لها تلك الشدة والغرابة. طريقة خاصة للعب بجدية، وتتطلب تركيزاً مكثفاً، بالإضافة إلى الحرية الغريزية في الجمع فيما بينها…
الشعر هو اللغة التي تمتد إلى فهم ما يبدو حقيقة غير معلنة، وذلك بطرق لا يمكن للمرء أن يعيد صياغتها دون القيام بعنف اختزالي في التفكير – قفزة اللغة في الفراغ بين ما نفكر فيه كل يوم ونشعر به، وبطريقة أعمق أن نكون صادقين. يمكن للشاعر أن يأخذ كلمة واحدة مجردة، مثل الحب، أو الخوف، أو السعادة، أو أي شيء آخر ملموس مثل زهرة أو جبل أو كتاب .محادثة مبنية على حدود الحلم، هو الحياة، دوره مساعدة الناس على عيش حياتهم . وفي قراءته نبني مسكناً في الهواء، حيث يكون وجودنا معاً كافياً، والشيء الوحيد الذي يمكنه أن ينقذ أمريكا، أننا قادرون على فهم بعضنا البعض بطريقة غامضة أو سحرية . يأتي من سياق حديث لولاس ستيفينز الذي نوّه إلى أن أخبار الحرب معظمها سيئة، ومن الصعب تخيل الشعور اليومي، وانتشار الرعب. كلامه هذا حجة للخيال، وضرورة، ولو أنه على قيد الحياة الآن سيكتب بالتأكيد عن ضغط الواقع الآن: التدمير البيئي، الأوبئة، عدم المساواة، والصراع الطبقي في جميع أنحاء العالم وعند قراءته علينا أن نتذكر جميعاً أننا خبراء في الكلمات.
القصيدة حزينة، لأنها تريد أن تكون لك ولا يمكنها فعل ذلك.يبدو الكاتب مثل مُعلّم مهتم للغاية بكيفية استخدام اللغة. هو الذي استحوذت عليه قصائد مثل “أغنية هيواثا” لهنري وردزوث لونجفيلو، كتاب مليء بالتقنيات والرؤى، يقدم بعض الحكايات الشخصية والحقائق التاريخية، ثم يكسر بعض القصائد إلى أجزاء صغيرة، ويشرّح طرق استخدامها. يحلل جزءاً من قصيدة “متحف الفنون الجميلة” لأودن، ويتحدث عن أن قراءتها كانت لحظة فاصلة بالنسبة إليه. ثم ينتقل إلى قصيدة والت ويتمان الشهيرة “أغنية نفسي”، وإلى قصائد لوالاس ستيفينز شارحاً تلك الجوانب الغامضة والواضحة معاً، وطريقة انتباه هؤلاء الشعراء إلى أشياء العالم بالشكل الذي لا نتوقعه. انتبه أيضاً إلى قصيدة “عربة اليد الحمراء” لويليام كارلوس ويليامز، فالخط ينكسر والطريقة السينمائية في تقسيم هذا المشهد العادي وطبعه في أذهاننا من خلال آلية القصيدة ومألوفيتها، كانت بمثابة رسالة: عمل معقد لكنه بسيط، في النهاية كل شيء له أهمية بالغة وملحوظة. ثم يسلط الضوء على ميل الشعر الحديث إلى القفزات العشوائية واحتضان الغرابة. يوضح القفز ويفسره، فثمة خيوط ضعيفة أو رفيعة تربط محتوى القصيدة من سطر إلى آخر، وهنا يستخدم قصيدة روبرت هاس “التأمل في لاغونيتاس” لاستكشاف هكذا نوع من الكتابات .ينتقل إلى السياسة والمواضيع السياسية في القصيدة مثل الجنس والإقتصاد والعرق والبيئة، وبرأيه أن العالم السياسي غالباً ما يكون مكاناً غريباً، لا ينبغي للشعراء أن يخافوا من مصطلحاته.
يصرّ في بحثه هذا عن طرق يتحرك فيها الشعر الذي يغيرنا أحياناً دون أن نكون قادرين على توضيح أسباب حدوث ذلك.
كتاب ماثيو زابرودر مثير للإهتمام، ومشغول بشكل جميل. متعة هذا النثر الناصع هي خطوة قوية ومحاولة أكيدة لتوسيع حياتنا وخيالنا.
(المدن)