أفراح الهندال: مطبخ دلع.. “نملية” مليئة بالحب.. و”مونة” حياة

0

أقرب الصديقات – وهن لا يزدن عندي عن عدد أصابع اليد الواحدة – من تدخلني قلبها من باب المطبخ، والمطبخ قد يكون مجازاً لولا أنه مليء بالأحاديث الحلوة والأخبار الحصرية ونميمة حميمة محورها خيباتنا واعتلالاتنا وأسرارنا الصغيرة والضحكات، تماماً بحلاوة الحلقوم المتسرب من أصابعنا بعد أن لعقناها معاً.. وبمرارة قهوة “يبعتلك..” التي أفضلها بلا سكر في حضورهن.

لكل منهن مقادير نحضرّها سوياً، ونختلف في كيفية إعدادها وطبخها، ولكل “طبخة” حديث يأتي في وقته، دلع المفتي.. شمس الكتابة وياسمين الروح وأول المتصلات: من معي؟

         لك يبعتلك.. شو هالنص الحلو؟  حلو كتير أفراح بس ما بيتاكل!

         ليش دلوع؟

         لك بطلوا تزويء ولغة صعبة خلونا نفهم شوي.

         طيب.. كلامك صحيح، بشوف وين الخلل..

         بس على فكرة.. نصوصك التانية لذيذة و..”مهضومة” كتير.

كان حوارنا الأول .. ربما في العام 2003 في غمرة نشاطنا الكتابي في منتدى “مدينة على هدب طفل”، وتوالت بعده الكثير من اللقاءات في الملتقيات الأدبية والندوات وطبعاً اللقاءات القريبة من الروح في بيتها، تحديدا الصالة الصغيرة الخاصة بالمقربين بين المطبخ والحديقة وبرائحة الشاي بالنعناع ومناقيش الزعتر، نستأنفه بسلاسة ولو كان انقطاعنا متجاوزاً العام: بـ”إي وين صرنا..؟” ، ثم نختتم الزيارة بلعبة تثير حنقها حين نتقمص حالة احتفالات توقيع الكتب وتبادل الأحاديث عن إصدارها الأخير، وأكثر ما كان يزعجها: التقاط الصور، أو كما كانت تراها هدراً للحظات الحلوة.

مقصوف الرقبة

أصبت بالذعر حين عرفت عن مرض دلع المفاجئ، وأحزن كل محبيها، قرر معظمنا اللجوء إلى صديقتنا المشتركة سوزان خواتمي للاطمئنان عليها، تخفيفا عليها من الاتصالات ووطأة إعادة سرد التفاصيل كما كنّا نظن؛ لكنها فاجأتنا بكل محبة وروعة وصدق وهي توبخنا فرداً فردأ، وتعاتبنا بسبب الغياب، بشكل مباشر؛ وبكتابات صريحة عفوية، إضافة إلى المقالات التي أوْدت بسمعة “م.ر” إلى الحضيض، لعنت المرض “مقصوف الرقبة” وتجاوزته مراراً بقوة خارقة لا يمكن أن تجتمع إلا في امرأة بلون الياسمين وقوة الشمس وضحكة الحياة المركبة في اسمها “دلع المفتي” الآسرة.

منتهى الذوق.. والذائقة

قبل سنة تقريباً؛ حدثتني عن كتاب جديد وأرسلت بعض نصوص منه، كنت بطيئة أو بلا حاسة شم قوية، لم ترسل غيرها، وأكاد أجزم أني سمعتها وهي تردد  غاضبة”يبعتلك.. يبعتلك..يا فروح”، حين نشرتْ خبر إصدار الكتاب بهتّ لوهلة.. ثم صفقت في مكاني وأنا بشغف الحصول عليه.

قالت دلع مرة: “أطبخ وأنا سعيدة.. أطبخ وأنا حزينة أو غاضبة أو ملولة.. أطبخ حتى وأنا مريضة. عندما كُسرت يدي، كنت أدخل المطبخ وأطبخ بيد واحدة، وبعد انتهائي من جلسات علاج السرطان، كنت أدخل المطبخ حال ما أعود إلى البيت” وهذا سر وصفاتها التي كانت تحتفظ بها منذ 35 عاما في دفتر غارق ببقع الشوكولاتة والزيت والطماطم، لتنتقي منه ما يلبّي شهية القلوب الجائعة بمقادير مميزة ومتفردة وخصوصية ليست لسواها، مقادير الطبخ وحكاياتها الألذ.

فتّات الحكي

ربما يكون عملاً فارقاً ونادراً أن توزع ست بيت فنانة ومدهشة سر وصفاتها؛ لكنها ست بيت، وسيدة حياة، كاتبة سردية قبل ذلك وبعده، دلع تكتب خلال الطبخ، وتترك أفكارها لتختمر أثناء ذلك، فلا عجب إذن!

في كل حكاية ثمرة تنضج من الذاكرة، ذاكرة سائلة تغلي، وخبرة حياة تبرد على مهل، تطل الشخصيات تباعاً بدءا من الماما والخالات ومرورا بالأبناء والزوج والجارات والشيف وغيرهم وهي تترك للروائح العطرة انتشارها في القراءة، من الطفولة نتخيل غفوة “روس ورجلين” وصينية “ابن عمي”،  والنملية التي نكتشف أنها مخبأ المونة وطفلة تشبه النملة، و”دبوس المشمش” الذي كان يرسم مسرحيات الأميرة.

ومن التاريخ يباغتنا زرياب بمواهبه المدهشة في الموسيقى والتأنق وشروط الأطعمة قبل أن يدخل في سجال طويل مع دلع ويختفي، ومن أجواء العمل تطل متطفلات يشعلن الغيرة فتخمدها بورق العنب وتدفعهن بعيدا عن مملكتها، وعن شغب الصيادية و”عريس الغفلة”، البريستو “ملعلعاً”، “مجبوس الغربة” وقلب الأم، “الأرز بالحليب” والخَدر ..وغيرها من حكايات وقصص معجونة بأكثر المشاعر رقة وجنوناً وغرابة وألفة معاً، بينما تغلق الطاجن على شخصيات ثانوية وبـ”قدر الضغط” غالباً لتترك منفذ البخار يدور مجنوناً بصفيره المضحك.

جبنة مفتقة.. وكوسا محفورة

الصور الفاخرة قد تبدو صعبة الإنجاز.. لكن الحكايات تهوّن على المبتدئين الكثير في إرشاداتها،  كما أنه لم يفتها أن تكتب ملاحظات مع المقادير مثل: “جبنة فيتا مفتقة، خمس فصوص ثوم مدقوقة ورأس ثوم كامل، خمس حبات باذنجان مقشرة خطّا ًبخط، معجون أو دبس فليفلة،  رشة من البهارات السبعة، الأرز مغسول، مصفّى، الكوسا محفورة،  ممكن إضافة خل ليمنحه حموضة لذيذة، حمص مسلوق مع مائه، من زيت المكدوس  يمكن سقي السلطة، إذا لم يتوفر كعك مطحون استعمل البرغل.. الجزء المقمر من اللحم هو الألذ.. يجب الحرص على تقميره دون حرقه.. إلخ” ما أجملك !

أما الأخطاء فتحتفل بها، وتسجلها في الحكايات مقرونة بالأغنية المناسبة لدندنتها، “مطبخ دلع” كتاب في فن الطبخ، وفن العيش،  وفن التشافي، وفن التمسك بالأحلام  التي لا يجب أن ننساها لأنها “ملح الحياة”،  العاشقة للمطبخ الكبير/الحياة تقول: “ممتنة لكل القدور والصحون والملاعق والشوك، وللمطبخ المقلوب رأساً على عقب، لأن ذلك يعني أنني أملك ما أطعمه لأولادي، وأنهم يحبون ما أطبخ”.

 قراءة الكتاب بهجة قلب، من سيدة المحبة التي كانت تعني “الهَنا” كلما زجرتني بـ”يبعتلك”، شمس الكتابة التي ترى كل يوم “أسعد يوم في الحياة”، الإنسانة التي بسّطت نظريات الحب وخبراته بسرٍّ ساحر: “الحب طبخة فريكة”.. “أشعليها”.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here