ينام كلما فتح كتاباً، يحاول أن يقاوم شذرات نيتشة الجنائزية فينام، ومرة يتهرّب من امتعاق لونه بتشريحات سيوران فينام، وليلة أخرى يسد الصدع في جدار غرفته قبل أن تدب الحشرة العملاقة على جسده فيصمت كافكا وينام، حاول أن ينفض الحرب عن ذاكرة بطل سفايغ أمس فاختنق بالمعتقل ونام، ينام كلما فتح كتاباً، وينسى متى طوى الصفحة الأخيرة حين يقوم صباحاً، وأحياناً بعد مغيب الشمس، وغالباً منتصف الليل وسط بركة من الغرق. يزيح الكتاب العالق بجسده، متخلّصاً من طوق النجاة، يترك الريح تأخذه أينما شاءت ليزجّ يومه في تفاصيل دوار البحر. لا يعرف اسماً حقيقياً للبشر الذين يقابلهم، يتعرف إليهم من ملامح وعبارات وأسمال رثّة أو هيئات متأنقّة وأصوات تتغوّل في ذاكرته، يحاول أن يكون بطلاً جديداً يغيّر الأحداث، غير أنه يتحوّل سريعاً إلى شخصية ثانوية، في الجرد اليومي، في المخزن المكتظ، في الشوارع القليلة التي يخرج إليها، وعند مفترق كل انعطافة تعود به إلى عتبة الأرشيف الذي يحرسه، هو الهامش الذي لم يُكتب عبثاً، وينساه العابرون لوهلة، يخط صوته بقلم الرصاص وينسى في أي صفحة أصابه الصمم. لم يكن يريد أن يستغرق في الكتب هذه الليلة، كان يحتاج أن يترك للأصوات التي ضج بها رأسه مساحة تذوب بنفسها على دفتر اليوميات، حمل الكتب وركنها في زاوية المخزن، أزال مجموعات أخرى فاختفت النافذة العلوية، تسلل إلى التجويفة التي ينام فيها ودفع الكومة التي تسند رأسه وجسده فتبعثرت، ركل بقدميه مصفوفة طويلة فترامت بعدها مصفوفات الكتب المتجاورة وسدت الباب، استلقى على الأرض مباشرة محشوراً بين الكتب، حاول فهرسة الضجيج بورقة بيضاء بقلم الرصاص، فأدرك أنه فقد العناوين، داخ في دوار بين ألوان مغبرة مبعثرة وعبارات جديدة تصرخ في رأسه، ظلت تستنجد حتى لفها الطوفان، لم يفتح كتاباً تلك الليلة، رجل آخر اشتراها بعد سنةٍ من السوق القديم بسعر مخفض بسبب «الجرد»، حملها، وهو يقطر عرقاً نحو المخزن، ليتولّى حراسة الأرشيف.
*القبس