تقف هذه الزاوية عند مترجمي الأدب العربي إلى مختلف اللغات. ما هي مشاغلهم وأسئلتهم وحكاية صداقتهم مع اللغة العربية؟ “عندما تكون مستعرِباً وغير ناطق بالعربية، فإنّك تقضي حياتك في تعلّم هذه اللغة”، تقول المترجمة الفرنسية في حديثها إلى “العربي الجديد”.
■ متى وكيف بدأت علاقتكِ باللغة العربية؟
لا أعرف حقّاً كيف أشرح لنفسي بدايات هذه العلاقة. لكنّ جزءاً من الإجابة يعود إلى طفولتي، التي قضيتها في مدينة روبيه، شماليّ فرنسا. في الحيّ وفي المدرسة، كانت صديقات طفولتي، في الغالب، من عائلاتٍ غادرت الجزائر في السبعينيات. قضيت الكثير من الوقت في منازلهنّ، وكان الكبار يتحدّثون فيها بالعربية وبالقبائلية. أعتقد أن هذه التجربة العلائقية والعاطفية، المباشرة للغاية (كما هو الحال عادةً في الطفولة، حيث تكون العلاقات عميقةً وطويلة الأمد) قد خلقت عندي رابطاً عميقاً بما يكفي مع هذه اللغة، من دون أن تكون عندي، حينها، أيّة فكرة عن هذا الأمر. بعد ذلك بوقت طويل، في أثناء دراستي العلوم السياسية، اخترتُ، من بين المواد المقترَحة في الجامعة، دراسةَ اللغة العربية الفصحى، تماماً كما فعلت في وقت سابق مع اليونانية القديمة: خيارٌ أعمى في مساري الدراسي المتناثر، بدايةَ حياتي كشابّة. لن أتعلّم العربية بشكل جدّي إلّا في وقت لاحق، عندما سألتحق بـ”معهد اللغات والحضارات الشرقية” في باريس.
■ ما أوّل كتاب ترجمتِه وكيف جرى تلقّيه؟
في سياق الضرورة التي خلقها اندلاع الثورة في سورية، وجدتُ نفسي أُترجم لأوّل مرّة نصوصاً من العربية إلى الفرنسية. كانت تلك ترجمات “مدفوعة”، كما يُقال، أكثر منها ترجمات احترافية. ربيعَ عام 2011، كنت أعيش في سورية وأدرّس الفرنسية في دمشق. وخلال لقاء مع مسؤول القسم الثقافي في السفارة الفرنسية، أخبرته أنّني درست اللغة العربية والترجمة. كانوا بحاجة ماسّة إلى مترجمين إضافيّين، في ظلّ كثافة الأخبار اليومية ووفرة الكتابات التي أنتجتها الثورة. هكذا أصبحتُ مترجمةً تتلمّس طريقها، في ذلك الوقت، ليلاً نهاراً، لفهم ونقل كتاباتِ عدد كبير من المفكّرين والمحلّلين والصحافيين المعارضين الذين بات في إمكانهم الكلام والتعبير.
■ ما آخر إصداراتكِ المترجَمة من العربية، وما إصداركِ القادم؟
آخر إصدار ترجمته هو “في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟” لعزمي بشارة. وصدر قبل ذلك، في الصيف الماضي، كتابُ “الشرق صوتاً: موسيقات منسية، موسيقات حيّة” الذي شاركت في ترجمته. انتهيت أخيراً من ترجمة مجموعة من النصوص عن الحضور العربي في إسطنبول، وهو مشروع يشرف عليه الباحث فرانك ميرمييه. أمّا حالياً، فأعمل على ترجمة عمل جماعي، من تحرير نبراس شحيّد، حول التمثّلات الفنية للجسد في سورية.
■ ما العقبات التي تواجهكِ كمترجمة من اللغة العربية؟
يمكنني القول إن العقبات الرئيسية تنتظم في شقّين. يتعلّق الأول بمحدوديّة معرفتي باللهجات العربية: فعندما أترجم أعمالاً سمعية وبصرية أو كُتبَ رسوم مصوّرة، على سبيل المثال ــ وهي أعمال تلجأ إلى اللهجات المحلية ــ أواجه بشكل مستمرّ صعوبةً في فهم هذه اللهجات، ولا سيّما تلك المحكيّة في المغرب العربي. مهما قلنا، لن نستطيع التعبير بما يكفي عن هذه الحقيقة: عندما يكون المرء مستعرِباً وليس من الناطقين بالعربية، فإنه يقضي حياته في تعلّم هذه اللغة. أمّا العائق الثاني، فيتعلّق أكثر بأحوال النشر، بشكل عام، في العالم العربي. في نقاشاتي مع عدد من الزملاء المترجمين، غالباً ما تحضر الصعوبات التي نواجهها أمام نصوص ممتِعة، بالتأكيد، لكنها لم تمرّ بمرحلة من “الفلترة” والتدقيق المنهجيّ، كتلك التي يفرضها الناشرون هنا في فرنسا، على سبيل المثال. وهذا ما يضطرّنا، كمترجمات ومترجمين، إلى القيام بعمل ليس بالقليل، في بعض الأحيان، بموازاة عمل الترجمة نفسه، يتمثّل في إعادة الكتابة أو في إجراء أبحاث من أجل تقديم نص “قابل للتحرير” وفقاً لمعايير الترجمة في فرنسا.
■ نلاحظ أن الاهتمام يقتصر على ترجمة الأدب العربي وفق نظرة واهتمام معينين، ولا يشمل الفكر وبقية الإنتاج المعرفي العربي. كيف تنظرين إلى هذا الأمر وما السبيل لتجاوز هذه الحالة؟
مساحة عملي تنتمي، في الواقع، إلى هذه الهوامش الضيّقة التي تشيرون إليها. ذلك أنني قلّما أترجم أعمالاً أدبية، ويتركّز عملي، بشكل أكبر بكثير، على العلوم الإنسانية والاجتماعية ــ ولو أن الحدود بين هذين المجالين بعيدة كل البعد عن أن تكون ثابتة، خصوصاً في العالم العربي، حيث البُعد الحِسّي والسردي يرافق، في كثير من الأحيان، الكتابةَ التوثيقية ذات الأغراض العلميّة أو العارِفة. يخطر على بالي، هنا، العديد من النصوص (لصحافيين وأكاديميين من بلدان مختلفة) التي قمت بترجمتها، والتي أرى أنها تنتمي، في الوقت نفسه، إلى العمود الصحافي، والتأمّلات الحميمة، والتحليل الأنثروبولوجي أو السوسيولوجي، إلى العمل التأريخي أو حتى إلى المحاولة الفلسفية، من دون أن يكون ممكناً تصنيفها في أحد هذه المجالات وحده، بالمعنى الضيّق لكلّ واحدٍ من هذه المجالات.
■ هل هناك تعاون بينكِ وبين مؤسّسات في العالم العربي أو بين أفراد، وما شكل التعاون الذي تتطلعين إليه؟
أعمل بانتظام مع مؤسّسات حكومية وغير حكومية في العالم العربي، والتعاون فعّال وجيّد بما يكفي. ثمة العديد من الشراكات القائمة، التي تميل إلى تعزيز الترجمات بين اللغتين، ولا يسعني إلّا أن آمل أن تستمرّ في التطوّر!
■ ما المزايا الأساسية للأدب العربي ولماذا من المهمّ أن يصل إلى العالم؟
ليس في استطاعتي الجزم في ما إذا كان ثمة خصوصيات للأدب العربي، مقارنةً بالجغرافيات الأدبية الأُخرى. لكن ما هو مؤكّد، بالنسبة إليّ، أن العالم العربي يعرف في السنوات الأخيرة عدداً هائلاً من الحراكات والمبادرات والنضالات الاجتماعية والسياسية، التي تمتاز بعزيمةٍ كبيرة. بناءً على هذا، تصبح ترجمة النصوص السردية والشهادات والمخيالات التي ترافق هذه الحراكات، إثراءً معرفياً وحِسّياً كبيراً لـ”الإنسانية”، بالمعنى العميق للكلمة.
بطاقة
Marianne Babut من مواليد عام 1981. درست العلوم السياسية واللغة العربية، وهي تعمل، بشكل أساسي، في ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية، إلى جانب ترجماتٍ في المسرح والقصص المصوّرة والأعمال الوثائقية. من الأعمال التي نقلتها إلى الفرنسية: “بالخلاص يا شباب!” (2015، بالاشتراك مع نتالي بونتان) لياسين الحاج صالح، و”حرير وحديد” (2017، بالاشتراك مع نتالي بونتان) لفوّاز طرابلسي، و”اليمن: كتابة الحرب” (كتاب جماعي وترجمة جماعية، 2018)، و”الشرق صوتاً: موسيقات منسيّة، موسيقات حيّة” (2020)، و”في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟” لعزمي بشارة (2021).
(العربي الجديد)