الشمس العربية
جمعتني مع عبقرية أمير القصة القصيرة زكريا تامر، أزمان إبداعية وإنسانية مشتركة، ما بين دمشق وبيروت ولندن؛ يتناوب في حضرة ماضيها شهيق صحوة “الذاكرة” وخمول شهيقها الذي دفنه “النسيان”، بحيث لم يعد بمقدوري اليوم استعادة مناسبة تعارفنا لأول مرة. ولكن من المؤكد استدراك أن عدد جالية نخبة الفن والأدب من رواد الحاضنة الدمشقية الأولى في الخمسينيات كان يسهل فرص تعارفهم ببساطة. كنت أصغر سنًا في “جماعة العشرة” وكذلك ضمن هيئة مدرسي كلية الفنون الجميلة والوحيد اللبناني الجنسية. جمعت إذًا دمشق مساقط رأسينا هو عام 1918 مـ وأنا 1941 مـ، ولم يلعب فارق العمر أي دور في تواشج صداقتنا. أستطيع مع ذلك أن أؤكد خصوبة هذا اللقاء، أينعت بين الهزيمتين 1967مـ و 1973 مـ. لعل أبرز ما خلفنا نحن الاثنين من كتب هو مؤلف من الرسوم المتسلسلة، ملون بالغ العناية يقتصر النص على بوالين الحوار، يعتبر مضمونه رد فعل على الهزيمة الأولى لذا كان عنوانه ” الشمس العربية ” بمعنى أن ما بعد الليل إلا النهار، وما بعد دياجيره إلا الصباح المشرق. يبعث الأمل في تسونامي الحداد العام الذي قضمت إسرائيل خلاله الجولان وسواها. فحوى حوار زكريا في هذا المسلسل الفاخر والخصب والذي يعانق شتى أدوار الحرب والمعارك والكر والفر تدربت على رسمها لأول مرة، بأن الهزيمة ليست قدر نهاية مطاف وإنما بداية صراع ستكون الغلبة في النهاية لشمس الحضارة العربية. طبع في بودابست (هنغاريا) بلغتين، ونال الجائزة الأولى في حينها على مجمل الطباعات التي تمس غالبًا حق الشعوب. أفخر اليوم بهذه الجائزة التي تقاسمت مجدها مع أحب أديب إلى قلبي. انتبه زكريا فيما بعد إلى خصائص أسلوبي المتميزة في الغرافيك والرسوم التوضيحية فبدأ يكلفني بأعمال جدية من قصصه من مثال “هكذا تكلم النهر”. لم يلق كتابنا ما يستحق من الشيوع في البلاد العربية بعكس دول أوربا الشرقية. فقد كان المنافس له عن حق كتاب رسمه محي الدين اللباد ملون لا يتجاوز طوله السبعة سنتيمتر بعنوان “البيت” يقتصر زكريا في قصته البالغة البساطة والبداهة والإختزال بقوله: إن للطائر بيتًا يدعى بالعش وللأرنب بيتًا يدعى بالأخدود وللحمار بيتًا يدعى بالإسطبل… إلخ، أما الفلسطيني فالخيمة ليست بيته، لأن بيته احتله الصهيوني… إلخ. رسم بنفس الروح الطفولية. وانتشر مثل اللهيب في الحصيد. وعملت إسرائيل على جمعه من الأسواق والمكتبات، واعتبرته العدو اللدود لمشروعها الصهيوني.
ليس بالصدفة أن الكتابين موجهان إلى الأطفال بشتى الأعمار (الفتى والبالغ والغرّ) فقد توج زكريا دومًا بأنه ملك قصص الأطفال عن حق، لذلك تحالفت مع قصصه هذه في مجلتين محليتين السندباد ورافع، رسومي في الثانية كانت أشد تدربًا وظل هو يفضل نذير نبعة للأغلفة الجادة من مجموعاته وممتاز البحرة في الرسوم الواقعية ثم سعيد طه وبنسبة ما لجينة الأصيل في رسوم قصص الأطفال الصغار. وذلك قبل أن يكتشف المعجزة في هذ المجال وهي الرسامة والمصورة شلبية إبراهيم زوجة نذير نبعة، التي جمعت حكايا وأساطير ريفي المزة والمنوفية في سورية ومصر (حيث الحرانية ويصا واصف). وظل يعمل معها بشخصيات حيوانية (خاصة الثعلب) تيمنًا بكليلة ودمنة (الذي ترجمه المقفع عن بيدبا الهندي في القرن الثامن الميلادي). لم تكن شلبية تفرق بين مائياتها التصويرية المشبعة بمحبة العالم والأجناس الحية، وبين الرسوم والكتب التي أنتجتها مع زكريا. هو سبب نجاح موهبتها العصامية الخارقة والمتفوقة حتى على المرحوم زوجها. زكريا نفسه يتعامل مع قصص الأطفال، وكأنها حكايا مخايلي عرائس خيال الظل أو أساطير تمثل متعة لكل الأعمار.
عندما أعاد رياض نجيب الريس طباعة كتب مجاميع قصص زكريا تامر في بيروت (يتجاوز عددها الإثني عشر مؤلفًا) أهداني إياها كاملة ومرسلة باسمي إلى عنواني في باريس، لعلها أجمل هداياه، انكببت على قراءتها ليل نهار عدة مرات ولا زلت. وكنت قد عملت معه لسنوات طويلة عندما أصبح رئيسًا لتحرير أرقى مجلة أدبية في العاصمة وهي الفكر الأدبي (المنبثقة عن اتحاد الكتاب) سيطرت رسومي ومنهجي على هذه المجلة واستطعت أن أفرض طريقتي المتميزة في التصوير المنطلقة من دمشق من تدمير إيكوشار لتنظيمها المعماري ما بين العيبة وسوق ساروجة (حيث ولدت وعشت في حارة الورد). لم يتوقف التدمير الباطني للمدينة على غرار مؤامرة شارع الثورة ومثاله كثير من بلدوزر القصور الزاهية.
من هذه الدور التي مرت عليها سنابك هولاكو متأخرة أحد أجمل قصور دمشق القائم في رأس حي الصالحية (القريب من عنوان سكني) كنت منذ طفولتي أعشق تفاصيله أتأمله كلما مررت بالحي ساعات وكذلك آخرين.
حرائق دمشق
ذات يوم أسود أخلي القصر من قاطنيه بدعوة الرغبة في ترميمه، خاصة وأن أخشابه مهترئة نسبيًا، وذات صباح أشد سوادًا شهد أهالي الصالحية فاجعة حريق هذا القصر بطريقة مبيتة من تحالف السماسرة ورجال الأمن النافذين واستمر الحريق عدة أيام ومنع الجيرة من إخماده حتى تحول إلى كومة من الرماد اقتلعت جذوره. من حسن الحظ أني صورته في لوحاتي مرات عديدة من الذاكرة، ومنها واحدة من لوحات مشروع تخرجي من كلية الفنون (جامعة دمشق) وأصبح موضوعًا رمزيًا لتدمير دمشق المستمر في مجموعة لوحات وضعت لها عنوان “دمشق الحرائق” ثم نبهني زملائي إلى أن هذا هو عنوان أبرز كتب زكريا تامر، فأضفت إلى العنوان “دمشق الحرائق – تحية إلى زكريا تامر”. ولا زلت مصرًا على هذا العنوان بعد نفيه إلى لندن. أعدت قراءة الكتاب الكثيف الذي يعانق مجموعة قصص على طريقة زكريا، ولا واحدة منها تحمل هذا العنوان ما خلا العنوان الشامل الرئيسي على غلاف الكتاب والذي أضيف بعد تأليف الكتاب، والعلاقة مضمرة لأن المجموعة تضع يدها على جروح هذا البلد ما بين إيكوشار وأربعة من أمناء العاصمة والميسورين من سماسرة التجارة بالبيوت، فقد كان المشروع ببساطة استبدال هذا القصر ببرج إسمنتي مربح لزبانية الفساد.
بادرت ذات مرة بسؤال وجهته إلى زكريا في بيت نذير نبعة الذي جمعنا في حينها: كيف تبادر إلى ذهنك العنوان غير الموجود في الداخل؟ أجابني بثقة من حريق قصر (نسيت اسمه) الذي تصوره حضرتك دون الإحالة إلى كتابي الذي أهديتك إياه بعد طبعة الريس. آه حصلت المعجزة إذًا، صورة القصر التي تحفظها لوحاتي هو نفس الضحية التي احتفى بها زكريا العظيم في مجموعته في السبعينيات. لا زلت أعرض هذه المجموعة تحت نفس الاسم “دمشق الحرائق – تحية إلى زكريا تامر”.
*ضفة ثالثة