محمد برو
كاتب وباحث سوري، مدير مركز صدى للأبحاث واستطلاع الرأي، صدر له كتاب “ناجٍ من المقصلة… ثمانية أعوام في سجن تدمر“
أوراق 11
ملف أدب السجون
أرجِح أنني هرعت أخيرا للكتابة عن سنوات السجن وتفاصيل الحياة اليومية فيه، مع كلِّ ما تحويه من آلام مديدة، يستحيل على الناجي أن يتخلص منها دفعة واحدة، ربَّما كان السبيل لأتخفف من ذلك العبء المضني، الذي ما برحت أمارسه بشكلٍ يكاد يكون يومياً في سرد الحكايات بالرغم من أنني أرويها غالبا بروحٍ ساخرةٍ بصفتها تمثل في أحد أوجهها نمطاً من اللامعقول، وبحبً تحمله النفس الى أيام ربما كانت الأغنى في حياتي، بسبب ذلك المزيج الهائل من الخبرات والتكوينات الإنسانية، التي من الصعب بمكان، أن تتوافر في حيِّزٍ ضيقٍ جداً وزمانٍ مترامي الأطراف، كما يحويه ذلك السجن، فأردت أن أجمعها في كتاب يتحدث باستمرارٍ نيابةً عني، وعن الآلاف ممن عبروا ذلك النفق المظلم، ومن غابوا فيه.
يبدو أنَّ هناك شيء في الأعماق أحسه بين الفينة والأخرى، يهيب بي أن أداوم على رواية الحكايات، فبها أرد اعتبار من ماتوا بيننا، واستمر في ركل خاصرة وجبهة الجلاد، الذي يحاول دائماً تزييف الوقائع، والتزيي بصورة السيد العالي باني البلاد وحارسها، لأفضح صورة الوحش القاتل بداخله، وربما لأمتح منها تعزيزاً نفسياً، فأتذكر دوماً أنني مررت بأيام صعبة ونجوت منها، كما نجى آخرون كثر، ولا يمكن مقارنة تلك الأيام بأية صعوبات يمكن المرور بها بعد ذلك السجن.
تتمدد ذاكرة المعتقل لتتصل بذاكرة معتقلين آخرين، ربما في أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة ومتباعدة، إلّا أنها تتوحد في الموقف من السجن بحد ذاته، بدءً من المعاناة المشتركة، وإن تباينت في قسوتها، لكنها تبقى معاناةٌ لها طعمٌ خاص يعرفه المعتقلون، كما تتوحد في اتجاهات أنماط التكيف، تتوحد في الأهداف وتتنوع في سبل التحقيق، وهذه المقارنة بذاتها تغني خيال المعتقل وتمنحه إحساساً بالانتماء لهذه المجموعة الواسعة “المعتقلون”
وأخيراً تتوحد في تواتر الامنيات التي يتشوفون إليها كلَّ ساعةٍ حتى في أحلامهم.
الأماني الكبرى تتمركز في الحرية والانفلات من القيود، وأماني أخرى تتسلسل في ترابطها كالعودة للأهل والأصدقاء، والعودة للحياة الطبيعية التي كانت، والتمتع بكل ما هو بسيط وعادي.
يتحرك المعتقل عبر ذكرياته في فضاءاتٍ وأزمنةٍ متوازية ومتباعدة تباعداً كلّياً، فهو مشدودٌ بكليَّته لذكريات ما قبل الاعتقال، والتي تحوي حياة مضت، وهي لدى البعض ذكريات النضال السياسي، أو المعارضة التي شقَّت عصا الطاعة على السلطة الحاكمة.
تأتي على التوازي منها ذكرياتهٌ في أوَّل الاعتقال، قبل أن يتقبل فكرة انه سجين ويصبح السجن جزءً من نسيج حياته الطبيعية، والذي نعبر عنه بعبارة “استحبس”، وفي هذه الفترة أقسى ما يمكن اختزاله في الذاكرة، من ساعاتٍ مليئةٍ بالقلق والرعب والألم والتعذيب، الذي يعصر الانسان ليستخرج منه خلاصة ما يعرف ومن يعرف، ليسوقهم عبر تلك الاعترافات إلى هذا الجحيم مكرهاً، وليحمل هذا الشعور البغيض بجنايته عليهم في اعترافاته، ربما يكون بعضهم بريء، لكنَّ سياط الجلادين ألجأته إلى هذه الاعترافات، كي يفلت من عذاب لا يطاق.
بعدها ستبدأ ذاكرة المعتقل في التشكل بمرور الأيام، فتثبت في الذاكرة كما يثبت الوشم في ظاهر اليد، وتتعزز هذه الذاكرة بالسرد اليومي والمقارنة الذهنية التلقائية، بين مرحلةٍ وأخرى من مراحل هذا السجن، الذي يلوح لقاطنه كما يلوح الأبد، بلا أفقٍ ولا نهايةٍ مأمولة، وسيكتشف المعتقل أنَّ هذه الذكريات في عوالمها المتوازية، والتي تتشابك أحيانا كما تتشابك ضفائر الشعر المجدول، لتصبح جنة المعتقل وجحيمه بآن معاً.
لن تتوقف خطوط الذاكرة المتوازية عند هذه النقطة، بل ستكون هناك مرحلةٌ تالية ربما تنصهر فيها عوالم الذاكرة السجنية جميعاً، مضافا لها الذاكرة التي ستتكون بعد خروجه من السجن، لتبنى منها عمارةٌ من ضوء الذكريات وظلالها، تختلط فيها الأزمنة السابقة باللَّاحقة، وتصبح التداعيات والمقارنات العفوية في خاطر الناجي، تجري جريان الأحداث بعفويتها، فلا تعبر واقعةٌ إلا استدعت شقائقها من تلك الذاكرة المعتَّقة.
في معظم الأحيان يكون صدى تلك الذكريات، إحساسا بالبهجة التي تعتري الناجي من موتٍ محقق، وربما إحساساً بالتفوق على تلك المصائب التي نادراً ما ينجو المرء منها بعقلٍ سويّ ونفسٍ قليلة الاعتلال، ونادراً ما تجذب اليها نظائرها من الحزن والمعاناة التي سكنت أعطافه زمناً طويلاً، لكنه سرعان ما يتجاوزها ساخراً،
خلاصة القول في تلك الذّاكرة المنصهرة بخطوطها المتوازية، سيكون فيها خطّان بارزان وظاهران، أشدَّ ما يكون الظهور. الخطُّ الأول: ذاكرة الأيام السجنية الطويلة بعد استقراره “استحباسه” التي تنسج تفاصيل حياته المتبقية، والتي طالما حسبها نهايته التي لا يرجى منها خلاص.
والخطُّ الثاني: ذاكرة ما قبل الاعتقال، والتي طالما يعود المعتقل اليها كلَّ حين، فهي حنينه، وبيته الأول وهويته، وحلم عودته، ومستراحه من قسوة الأيام، وتكون تفاصيلها بالنسبة أليه عالية الوضوح، لكنها سرعان ما تبدأ بالتلاشي والخفوت بعيد الخروج من السجن، لتحتل الذاكرة الحيَّة الوقائع الجديدة، التي تجري في نفسه جريان النهر في مجراه، فلا يدع لسواه موضعاً إلّا في ضيِّق المنعرجات أو عوالق الجذوع المتناثرة.
ومن المدهش أنَّ معظم الناجين من تجربة الاعتقال، بالرغم من احساسهم العارم بمتعة الحرية النسبية التي حازوها بعد حرمانٍ طويل، إلّا أنَّهم ما يلبثون أن يكتشفوا أنهم خرجوا من سجنٍ صغيرٍ إلى سجنٍ كبير، مع الفارق الهائل بين الإثنين، فليس السجن بتلك الجدران والقضبان الحديدية، أنه بذلك السجّان الكبير الذي يجثم على صدر البلاد بنظامه القمعي فيغتصب روحها.