أسامة فاروق: جابر عصفور.. في وداع التنويري القديم

0

اللافت في كلمات الرثاء العاجلة التي انتشرت بكثافة فور إعلان خبر رحيل الدكتور جابر عصفور كان الاحتفاء بالمودة رغم الخلاف. كثير من الكتابات الوداعية سبقتها جملة “رغم اختلافي مع بعض مواقفه” لتثبت أن الرجل استطاع الاحتفاظ بالاحترام والمودة مع الجميع رغم الخلافات العميقة، ولم يكن ما كتب من قبيل “اذكروا محاسن موتاكم”، لكنه تأكيد صادق على فداحة الخسارة، وعلى الدور الكبير للراحل في الحياة الثقافية المصرية والعربية الذي ربما يغفر بعض الهنات والعثرات.

خاض عصفور العديد من المعارك على مدار سنوات عمره الـ77 خرج في كثير منها منتصرا، وفي بعضها مثخنا بالجراح، منها معاركه مع الجماعات الدينية المتطرفة وحتى مع الأزهر نفسه، لكن ربما الجرح الأكبر الذي سببه لمحبيه قبل أن يصاب به هو نفسه كان قبوله لمنصب وزير الثقافة في اللحظات الأخيرة من حكم حسني مبارك 2011، معركة خرج منها خاسراً على عدة مستويات وإن لم يستمر في وزارة مبارك الأخيرة سوى بضعة أيام.

وقتها أصدر مثقفون مصريون بياناً أدانوا فيه “الموقف المخزي لعصفور لقبوله تولي حقيبة وزارة الثقافة في نظام لفظه الشعب بكل أطيافه”. صحيح لقيت استقالته بعد ذلك صدى طيبا عند جموع المثقفين، لكن ظلت هناك غصه من قبوله للمنصب في الأساس. تحدث عصفور كثيرًا بعدها سراً وعلانية على أن استقالته لم تكن لأسباب صحية كما قيل ولكن اعتراضا على ممارسات النظام السياسي وقتها. لم يكن عصفور طامعًا في المنصب كما قال لكنها ربما قناعاته بمنطق قديم عن إمكانية التغيير من الداخل! قناعة لم تصمد أكثر من أيام بعد أن اقترب ورأى.

أحمد ناجيربما تسامحت الأجيال الأكبر مع “سقطة” عصفور، تلامذته ومن تعاملوا معه عن قرب في المجلس الأعلى للثقافة والمركز القومي للترجمة، لكن ظل هذا الموقف يمثل عائقاً كبيرا أمام الأجيال الأحدث التي كانت تنظر إليه كأيقونة، ومنهم بعض المبدعين الذين يطمحون في أن يتناول الناقد الكبير أعمالهم يوما في مقالاته في الأهرام وأن يقدمهم كما قدم عشرات غيرهم. والحق أنه كان متواضعاً وداعماً ولا يبخل برأي ويقترب قدر طاقته، ولم يمنعه ذلك من الاستمرار في الدفاع عن قضايا الحرية التي طالما آمن بها ودعمها، فلم يتأخر مثلاً حين تمت دعوته للإدلاء بشهادته في محاكمة أحمد ناجي الشهيرة، بتهمة خدش الحياء العام بسبب مقاطع في روايته “استخدام الحياة”، وإن كان اللقاء الذي حدث بينهما بعدها نموذجاً يبين بجلاء عمق الهوة التي أصبحت تفصله عن بعض الأجيال الجديدة. 

يقول ناجي إنه كان من أكثر اللقاءات المدهشة التي حدثت له وقتها، وكان قد ذهب إليه لشكره على موقفه الداعم لقضيته ودار بينهما الحوار التالي:عصفور: أنا معاك وكل حاجة، لكن خلينا نتكلم بعيد عن القضية، نتكلم في الأدب. أنت مش شايف إن استخدامك للألفاظ دي أضر بالعمل وفي انتشاره؟ناجي: أيوه بس الألفاظ دي لم أخترعها أنا.عصفور: ولد! أنا اللي عملت الكلام دا، أنا مش بسألك عن أصلها. أنا قريت الرواية وأنت عايز تقول إننا فقدنا كل شيء وأصبحنا نعيش في فوضى، وتصور خراب العالم، وكيف أصبحت الشركات تتحكم فينا. لكن لما تستخدم هذه الألفاظ، مش ممكن تنفر القارئ وتخليه لا يكمل العمل أو تشوش رسالتك؟ضرب عصفور وقتها مثلا بنجيب محفوظ وقال إنه استطاع أن يقول كل شيء لكن بلغة سلسة وبسيطة وتصل لكل الناس دون أن تنفرهم. قال عصفور: “خليك معايا للآخر، معلش أصل أنا راجل تنويري قديم، أنت مثلا دلوقت روايتك دي اتطبع منها ألف نسخة، تخيل وهي رواية رائعة لو كتبتها بدون تلك الألفاظ كان تأثيرها هيبقى أوسع وأكثر انتشارا”.

تشعب الحوار في تلك النقطة، وقال ناجي إنه لم يسع للانتشار وأنه لو أراد ذلك لفعله بطرق أخرى، وأن الانتشار ليس ضمانه للتنوير على أي حال.

استمر النقاش لأكثر من ساعة ووصفه ناجي بأنه من أكثر اللقاءات غرابة “كنت أفهم ما يقوله، ويفهم ما أقوله له، لكن حاجزاً زجاجياً خفيا بيننا يمنع ويعوق التواصل، كأنني عاجز عن شرح نفسي له، كان الدكتور يردد بين كل عبارة معلش أنا راجل عجوز وبتاع تنوير، ولم أفهم منطق التنوير أبدا”.
رغم الخلاف العميق وانعدام التواصل أحيانا، إلا أن ناجي لم ينكر انبهاره بحيوية الرجل والتزامه “شعرت بالخجل من التزامه واحترامه للعمل الذي يدفعه لقراءة رواية كروايتي بكل هذه الدقة. كان يكفيه أن يعلن موقفاً منحازا لحرية الرأي والتعبير ويكتفي بذلك، لكن اندهشت أنه قرأ الرواية وكتب عنها في الأهرام قبل القضية، أبهرني بحيويته وقدرته على متابعة المشهد الأدبي بدقه وانتباه لا أملك حتى ربعه”.

زمن الروايةربما كان يحاول عصفور أن يوصل لناجي ما سبق وكتبه من قبل في كتابه الأشهر عن “زمن الرواية” أن الرواية العربية كانت في مقدمة أسلحة التنوير، وأنها لم تتوقف عن تحرير مبدعيها من سطوة كل سلطة تمارس القمع أو الإرهاب باسم الدين أو السياسة أو الأخلاق، أو حتى التقاليد الأدبية، وأن الرواية العربية “لم تكف، قط، عن مناوشة المردة بحيل السرد، أو ترويض الجبابرة العماليق، كي تدخلهم إلى قمقم الحكايات، أو مواجهة القمع والإرهاب بما يحول بينهما وبين القضاء على وعود المستقبل وأحلامه”. وأن الأعمال الروائية كانت على الدوام صوت المثقفين المحدثين “التي تنطق تجليات وعيهم في صراعه مع ثوابته وتقاليد مجتمعه، كما كان أبطال هذه الأعمال أقنعة يختفي وراءها كتابها كي ينطقوا المسكوت عنه من الخطاب الاجتماعي الجديد، ويحرروا المقموع من ثقافة الطليعة التي تتمرد على الثقافة التقليدية السائدة وتتحدى علاقاتها القمعية التي تتناقض وقيم المجتمع المدني الصاعد”.

كان ربما يريد أيضا أن يقول أنه يفهم الحيل ويدعم التجديد ويقدر الغضب، لكن هل كان الزمن هو الحاجز الذي منع التواصل؟ أم أنه التناقض الذي أصبح السمة الغالبة في التعامل مع عصفور على الأخص بالنسبة للأجيال الجديدة.. هناك احترام عميق لدوره وكتابته، لكن هناك أيضا عدم فهم لمنطقه في مسألة التنوير، فكيف للرجل الذي كتب “بلاغة المقموعين”، تلميذ طه حسين وحامل رسالته التنويرية، أن يكون قريباً من السلطة القامعة إلى هذا الحد، وكيف لمن ينّظر عن التنوير أن يساهم في تدجين المثقفين في حظيرة فاروق حسني الذي استمر على رأس وزارة الثقافة 23 عاما، وكان جابر عصفور ذراعه الأيمن؟! بل وأن يكتب هو نفسه أن المثقفين الذين اصطدموا بالسياسة في صورها المتعددة يعرفون “ما يمكن أن يقترن بالسلطة المستبدة من ممارسات عنف مادي ومعنوي، هي أشكال متعددة من الإرهاب، تبقيه هذه السلطة من اجل استمرار الطاعة المفروضة على رعاياها من ناحية، وعلى من يحاولون انتقادها أو مساءلتها أو الاختلاف معها أو عنها، ناهيك عن الخروج عليها، من ناحية مقابلة”!

على أي حال، لم يكن الوداع الشعبي لجموع المثقفين هو فقط من حاول إعطاء عصفور حقه، بل أعطت الرؤية الرسمية أيضا الرجل حقه كـ”تنويرى قديم” وكسياسي أيضا حيث قالت إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة: إن الثقافة المصرية والعربية فقدت أحد أعمدتها الراسخة. وأضافت، أن الراحل وضع بصمات بارزة في مجال التنوير وحقق الكثير من الإنجازات الخالدة، وكان له دور رائد في البحث الأكاديمي وإدارة المواقع الثقافية التي تولاها، مشيرة إلى أنه كان مثل الصديق والأب والمعلم، لكل من شاركه العمل.

كما وصفه المركز القومي للترجمة في نعيه بـ”مؤسسه والأب الروحي لكل العاملين به” مشيرا إلى أنه أثرى الثقافة المصرية في كل مراحل جهاده الثقافي وجدد روحها بما انجزه من مشروعات ثقافية رائدة في مجال النقد والترجمة وإدارة الثقافة مؤمنًا بريادة مصر وسائرًا على درب أساتذته العظماء من رواد التنوير، “وفتح آفاق المعرفة لنا جميعًا أستاذًا جامعيًا وأمينًا للمجلس الأعلى للثقافة ومؤسسًا للمركز القومي للترجمة ووزيرًا لثقافة مصر فكان نعم السند والقدوة والأب”.بل ومن خارج مصر أيضاً، كان هناك من يرى أن سياسة جابر عصفور في المجلس الأعلى للثقافة نجحت في جعله جسرا بين الثقافة العربية والثقافة العالمية من ناحية، ومكاناً لالتقاء المثقفين والباحثين والمبدعين من مختلف الأقطار العربية بعضهم ببعض، وساحة مفتوحة لحوارهم، ومجالا لتواصلهم مع مثقفي العالم وفنَّانيه من ناحية أخرى، ففي نعيه قال “مختبر السرديات” في الدار البيضاء إن عصفور استطاع خلال 15 عاما قضاها في منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة أن يقدَّم الكثير للثقافة المصرية والعربية، وأنه أشاع الحياة في المجلس الذي كان يبدو للجميع كيانا ميَّتا، ونقل نشاط المجلس من النطاق المحلى إلى الساحة العربية منطلقا من قناعته الفكرية العربية، حتى أصبح الكثير من المثقفين والمبدعين العرب يطلقون على المجلس بيت الثقافة العربية.

أشار أيضا إلى دوره في المركز القومي للترجمة معتبرا أنه “إنجازه الأهم” الذي بدأه بداية صغيرة لكنها كانت تمثل ضوءا في آخر النفق العربي المظلم وإرهاصا بحلم عربي كبير آتٍ، كانت البداية في عام 1995 بآحاد قليلة من الكتب المترجمة التي بدأت تصدر كل عام ولكن بعد عشر سنوات أصبح الحلم واقعا، وبلغ ما صدر عن المشروع القومي للترجمة أكثر من ألف عنوان، محطِّما بذلك الرقم القياسي لأي مشروع آخر للترجمة في تاريخ الثقافة العربية منذ عصر المأمون إلى يومنا هذا، ولم يكن الحلم العربي الذي تحقق على يدي جابر عصفور مجرد رقم جديد، يضاف إلى ما تُرجِم إلى الثقافة العربية، بل كان إنجازا في المحتوى أيضا حيث قدَّم  المشروع القومي للترجمة للقارئ والمثقف العربي عددا هائلا من النصوص المترجمة عن قرابة ثلاثين لغة مختلفة من اللغات الحية، فضلا عن بعض اللغات التي بطل استخدامها، أو غيرها من اللغات التي يُتَرجَم عنها مباشرة إلى العربية للمرة الأولى، وبذلك فقد كسر ذلك  المشروع الحلم مركزية الثقافية الأوروبية في الترجمة إلى العالم العربي.

***
سيرة
ولد جابر عصفور في 25 مارس/ آذار لعام 1944 في المحلة الكبرى. حصل على الليسانس من قسم اللغة العربية في كلية الآداب، جامعة القاهرة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، يونيو/حزيران 1965، ليستكمل دراسته العليا بالحصول درجة الماجستير والدكتوراه.عمل أستاذا زائرا في عدة جامعات عربية وأجنبية، بينها “جامعة استكهولم في السويد، وجامعة وسكونسن في ماديسون في الولايات المتحدة الأميركية، وجامعة هارفارد في الولايات المتحدة”.

أمين عام المجلس الأعلى للثقافة من 24/1/1993 إلى 24/3/2007. كما شغل منصب عضو لجنة الآداب والدراسات اللغوية في مكتبة الإسكندرية منذ تشكيلها مارس 2003. وعمل مديرا للمركز القومي للترجمة من 28/3/2007 إلى 30/1/2011. عيّن وزيرا للثقافة في حكومة الفريق أحمد شفيق عام 2011 تحديدا يوم 31 يناير لكنه استقال من وزارة الثقافة في 9 فبراير 2011، ليعين مرة أخرى في يونيو 2014 حتى نهاية فبراير 2015.
حصد العديد من الأوسمة والجوائز: “جائزة أفضل كتاب في الدراسة النقدية، وزارة الثقافة – القاهرة 1984، جائزة أفضل كتاب في الدراسات الأدبية، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الكويت، 1985، جائزة أفضل كتاب في الدراسات الإنسانية، معرض الكتاب الدولي، القاهرة 1995، الوسام الثقافي التونسي من رئيس جمهورية تونس، أكتوبر 1995، جائزة سلطان بن على العويس الثقافية، الدورة الخامسة 1996/1997 في حقل الدراسات الأدبية، جائزة الإبداع العربي في مجال الآداب – مؤسسة الفكر العربي، 2007. جائزة اليونسكو للثقافة العربية – الشارقة للثقافة العربية – باريس 2008، الجائزة التقديرية في مجال الأدب – جامعة القاهرة، 2007، جائزة التميز في مجال الإنسانيات – جامعة القاهرة 2008، جائزة الدولة التقديرية في مجال الآداب – المجلس الأعلى للثقافة، 2009، وسام المكافأة الوطنية من درجة قائد من ملك المغرب، فبراير 2010”.ألف وترجم وشارك في ترجمة عشرات الكتب في مجال الأدب والنقد، فضلا عن تقيم وتحرير كتب أخرى لكتاب مصريين وعرب.

*المدن