أسامة خلبوص: شمال شرق باريس.. غربة الثقافة

0

بعد الثانية ليلًا ومع هجوع الخلق لمخادعهم ولجوء المشردين لزوايا الأبنية والجسور، تبدأ الكاميونات بالوصول. إنها ليلة الجمعة هنا، الخميس للزوجات يشبه الخميس في بلادنا، والرجال يتطيبون ويلبسون جلابياتهم لليلة الفحولة كما لو كانوا في دسكرة ضائعة في مجاهل الجنوب.

هنا تصرف المياه صباح الجمعة أكثر من العادة، وهنا على مفارق الأربع طرق (les qautres chemins) ترتكي ثلاث مدن، باريس وأوبرفيلييه وبانتان، وينام الفقر.

تصل الكاميونات تباعًا تحمل البضائع لتلقي بها عند أقدام السوق المغطاة، كانت هنغارًا ضخمًا ايام زمان للأبقار والعلف والمحاصيل. هنا كانت الأراضي تعطي الملفوف والماش والكثير من الحشائش، فالماء وفيرٌ يُغرق الأرضِين.

يسرق الجائعون في ساعات الصباح الأولى ما يستطيعون من الصناديق المركونة، خيارة أو حبة طماطم أو تفاحة: لا يطمحون لأكثر مما يسد الرمق، ولا يخططون ولا حتى لساعة في المستقبل.

ثلاث درجات مئوية فوق الصفر كفيلة بحفظ كل شيء طازج: أنت في ثلاجة طبيعية، ومع بداية الجمعة وقبل الصلاة سترى النسوة الملونات تتبضعن، يلحق بهن الرجال بعد الصلاة بجلابيبهم وسواعدهم السمر الطويلة يحملون إلى الشقق المتراكمة مؤونة الأسبوع.

في أوبرفيلييه المدينة الضاحية مساجد وحركة دينية نشطة بين سرية ومعلنة وكذلك مدرسة يهودية يخرج منها الأطفال والأحداث بضفيرتين وقلنسوة.. يتصادف على الرصيف في يوم الجمعة مسلم ذو لحية كثة، ويهودي بضفيرتين ولحية، يكسو المسلم البياض ويكسو اليهودي السواد.

الفارق بين المُعاش الاجتماعي والثقافي في الحياة العائلية وبين السياق الثقافي في المدارس أو المجتمع الأعم فارق ملحوظ، ومن الممكن أن تلمس لدى هؤلاء الناس شعورًا بالانتماء إلى مجموعة إنسانية غير مُفضَلة حيث يتخذ التمييز ضدهم عدة أشكال فحياتهم مسار من العقبات وغالبًا ما تُقوَّض ظهورهم وهويتهم بسبب تقسيم المجتمع إلى طبقات، يعيش أطفال المهاجرين في أحياء فقيرة وعرقية حيث توجد مدارسهم وأماكن ترفيههم وعالمهم الترابطي الاجتماعي والديني وأحيانًا ما تكون قريبة من الحي اليهودي بسياق تاريخي استفزازي دقيق للغاية.

في منتصف الستينيات، في أعقاب أزمة الإسكان التي تلت الحرب ومع “طفرة المواليد”، بنيت المساكن الاجتماعية منخفضة التكلفة – HLM إسكان ذوي الدخل المحدود في ضواحي المدن. وفي الوقت نفسه كان هناك برنامج واسع النطاق لتطهير الأحياء الفقيرة بدأ به عام 1969 رئيس الوزراء جورج بومبيدو، وتمثل في هدم المساكن المؤقتة التي أحاطت بباريس ومحيطها وكذلك في محيط مدينتَي ليون ومرسيليا. تجمعات في مدن محيطية صممت للأزواج الشباب من الطبقة المتوسطة والفقيرة للاستقرار هناك لفترة من حياتهم، وبذلك أصبحت المدن الفرنسية الكبرى تتميز عن تلك التجمعات بمدارسها وبيوتها والعمل الأسهل وتحصيل الحقوق الإدارية وفي العلاقة مع الشرطة، وكذلك في بعض الأنشطة الترفيهية مثل دخول النوادي الليلية.

الأصولي المسلم الجانح المستبعد المندمج بشكل سيء ذاك الذي يعيش في توازن غير مستقر بين ثقافتين، صور نمطية أصبحت تستند إلى تمثيلات جماعية مبنية حول الضواحي: العنف والمخدرات والمجتمع المُحدَّد والغيتو، والحجاب…

وتبقى أشكال الانتماء للعيش المشترك في فرنسا على وجه الخصوص غامضة، تبقى رهينة الاشتراط بالاندماج، الذوبان، والذي ما زال يحمل في جعبته بصمة كولونيالية واستعمارية بنظر من هاجروا من شمال أفريقيا، ولا تسقط من ذاكرة الناس هنا مسيرة البور Les Beurs في ليون عام 1983 واعتصامات حق الاختلاف ضد هَمِّ الاندماج الذي تسعى له قوانين الهجرة ذات الصبغة الاستعمارية.

إعادة إسكان عائلات مهاجرة كبيرة بشكل تدريجي من مدن الصفيح ومراكز المدن المتدهورة كانت وفي كثير من الأحيان ضحية التخطيط الحضري غير المدروس ما أدى إلى تحويل هذه الضواحي إلى تجمعات عرقية حيث تجد العمال القدامى، أو العاطلين عن العمل.

أوبرفيلييه – بانتان ما زالت مغطاة بالفقر والحشيش والرخص. كانت أطرافها في السبعينيات مدن صفيح للهاربين والجائعين واللاجئين. بنت فرنسا لهم ” السيتيه” les cités مدن برجية كعلب كبريت بآلاف الغرف والنوافذ المغبرة وأسكنتهم، ولا شيء تغير سوى أن الحديد أصبح إسمنتًا.

من هذا المكان تمر سيارات الشحن الضخمة بصفائحها الحديدية وتستريح تحت الجسر نافثةً حرارة محركاتها بينما ينزل السائقون ليشربوا البيرة مقتنعين أنها قد تكون منعشةً أيام الحر الخانق القليلة على أطراف باريس. وفي الساحة تُترك السيارات الخاصة وعليها أوراق للبيع مع أرقام تلفون مأكولة الأطراف.

هذه الأراضي حول القنوات الطرفية “سان دوني وأورك” كانت مليئةً بالملفوف وشهيرةً به تحمله الدواب والعربات والقوارب إلى باريس. وتحمل معه أنواعًا كثيرةً من الخس الإفرنجي والقرنبيط وإلى ما هنالك.

وعلى أطراف القنوات كانت تأتي القوارب محملة بالدواب للذبح في منطقة “لا فيليت” المتاخمة فأهلها جزارون بارعون وطواحين القمح كانت هنا أيضًا. هذا شمال شرق باريس.

هناك انتظرَني سائق تكسي الأوبر، عبر المرآة ينظر بعينيه الصغيرتين الملونتين، جبهة بلون الصحراء وغرّة تنبت عنوةً، مجعدة وقاسية، يكلمني ياسين بلكنة مغاربية: “مِررحباا بيكْ، خِيرنناس” بعد أن علم أني من سورية، بعدها أكمل بفرنسية ناصعة يشوبها أحيانًا لحنٌ مغاربي في بعض المقاطع الصوتية تُظهر غربة اللسان.

يقول لي: “فضل لا أنساه لوالدي هو أنه كان يأخذني إلى المسجد فتعلمت العربية”، والدا ياسين يتحدثان الأمازيغية في المنزل وفي المدرسة ومع الرفاق كانت الفرنسية، كان ياسين في الثالثة من عمره عندما استقدمه أبوه مع أمه إلى فرنسا، أبوه عامل المناجم.

لقد كانت سنوات السبعينيات في فرنسا سنوات تكوين الجيل الثاني للمهاجرين من شمال أفريقيا ممن قدموا إليها في لم شمل العوائل أو ممن وُلدوا على أراضيها. قانون 1974 الفرنسي الذي حد من هجرة العمال المأجورين كان الفاتحة إن استطعنا القول لبناء الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة.

العربية بالنسبة لياسين هي قصار السور والفاتحة وتعابير بسيطة تنوف بالكاد عدد الأصابع، العربية هنا هي علّام ديني قدسي الطابع، فحتى وإن قلّت كلماته يعتبره ياسين لغةً يحملها، وهي أيضًا علّام انتماء.

عندما حمل أبوه موج المتوسط لم يكن يعلم أنه لن يعود به إلى الشط الجنوبي مرة أخرى. مرر الأب سنين المناجم ولم يعد يرغب بالحديث عنها. هذا السياق الاجتماعي غير العادل غرس ربما عند ياسين تلك المقاربة للغة عبر مرجعية دينية بانية للشخصية ومناهضة للضغط الثقافي المعاكس.

قال لي: كم أحب “يس” سورة تحمل اسمي، نقطة العلام الثقافية تلك في حياته قد تشكل أحد منابع الهوية لديه، ليس الدور الذهني الإدراكي للغة هو الذي يعمل هنا وإنما الدور العاطفي والنفسي.      

أما البائعة فضيلة على الخط الأخير في الشمال الباريسي فتعتذر للزبائن عند ساعة الإفطار في رمضان وتغلق السوبر ماركت، لا تلتزم السوبر ماركت خاصتها بساعات الدوام المعتادة في باريس، تغلق وتفتح على آذان المغرب في رمضان، لا تتحدث فضيلة العربية أبدًا، تقول السلام عليكم وشكرًا بمبالغة في اللفظ وكأن صوت العربية لديها مرتبط بالفخامة والقوة فنبرة صوتها تعود طبيعية عند التحدث بالفرنسية.

سلسلة عقدها تحمل “كف فاطمة بخرزة زرقاء”، قالت لي بعيون تلمع “كانت هدية جدتي”، “السلام عليكم” و”لا باس” و”العقد” و”ربي يعطيك الصحة” هو أمانها الثقافي والهوياتي تركن إليه في لحظات يومها الذي ما زال يوم رحلة جدتها الأول من الجبال العالية في الجزائر.

أغلق أرغون التركي مطعمه مع فرض الحجر الصحي وصار يبيع سفري و”ديليفري”، يعمل أرغون بجد الأتراك وشطارتهم منذ السادسة صباحًا هو هنا، ينظّف ويحضّر وعند كل صلاة يغيب في سقيفة المحل ليصلي فروضه، تحرس دكانه عين زرقاء من إسطنبول وآية الكرسي، سألته مرةً إن كان يعلم ما هو المكتوب في اللوحة الصغيرة المخفية فرشّ لي آية الكرسي عن ظهر قلب، وكأنه ما زال طفلًا صغيرًا يسمّعها لشيخه.

أن يكون لديك “مظهر” الضواحي “العصري” مع ملابس رياضية ذات ماركات تجارية أو موسيقى الراب الأفريقي أو طريقة الكلام وكذلك مظاهر حياتية يومية أخرى، هو شيء لا مفر منه هنا ومن الممكن أن تحمل زجاجة بيرة لكنك تسأل أرغون إن كان لحمه حلالًا أم لا.

جزء من الشباب الصغار هنا يرفض إعادة إنتاج حالة والده أو أن يتماثل معه في اللباس. مثلًا إنه يسلط الضوء بذلك على أوجه القصور في مجتمع غير مهيأ لاستقباله واعتباره جزءًا شرعيًا من المجتمع الفرنسي وبالنسبة للفتيات قد تتعارض القيم الأسرية المطلوبة مع تلك التي يتم تدريسها في المدرسة ما قد يؤدي إلى تسرب مدرسي أحيانًا.

عندما يهجم البوليس على المنطقة، مراتٍ بالأحصنة، يهرب عبد الحق المسن السبعيني إلى مطعم أرغون مع بسطة النعناع والموكدونوس كما يلفظها، يختبئ مع عربته الصغيرة وهو يسب باللغة الأفغانية والتي لا أفهم منها إلا “الله”، يضحك منه أرغون ويخاطبه بصوت عالٍ كما يخاطب البسطاء عندنا العجائز: يجب أن تعطيني نعنع ببلاش لأنني أحميك.

عبد الحق يضع نفس الكمامة منذ بداية كورونا، وبائعي المخدرات لفظوها منذ زمن، هم لا يلتزمون بشيء إلا بالمداومة على أرصفة “كاتر شومان”، حي “الدروب الأربعة” والذي كان اسمه بروسيا الصغيرة في سالف الأيام، هنا غاب الفرنسيون الأصليون واستوطن الأغراب بفقرهم وجوعهم وأزماتهم الثقافية ونزاعهم الحضاري وتمردهم على الحياة. لا وقت للكوفيد هنا، لا وقت للمرض، الوقت كله للمعاناة.

يعود الشتاء، تُدوّر الريح الخفيفة قطع الثلج المنهمر ألف دورة قبل أن تتكسّر على الشعر المعاند للرؤوس الأفريقية هنا. جادة كاملة من الأحذية الرثة المطيَّنة تتحرك في كل الاتجاهات، كأنها في بحث عقيم عن كفاية الرزق، هنا لا تصادف رقائق الثلج المتساقط شعرًا أملس أشقر تنساب عليه في لوحة رومنسية ولا أناس خلف النوافذ وأمام الشومينيه كما يمكن للبعض تخيل مشاهد باريس، هنا الأقدام الغامقة والزعيق والصراخ في سوق الأحد.

عند الزاوية تقترب نسوة على خجل بثياب ملونة تقتني لها شيئًا مما تبقى من بقايا السحاحير، وبخمسة يورو بضاعة بماركات مقلدة من ليدل LIDEL، عند عصف الريح ومع لسعة هواء الغروب اختارت الحمامات الرماديات الطيران على علو منخفض، كانت تدور كما تدور الجوارح فوق الموت، رقصة ربما للفقراء قريبة وحانية فوق الرؤوس، لا أحد يكترث لها سوى ربما طفل أو طفلين بعيون أفريقية برّاقة.

عربة الطفل محطمة كالأحلام، معّرجة السير كخط حياته، محمّلة بالأكياس من كل الأطراف، “مشنكلة” بلا عناية تعيق نظره إذا ما غابت الحمامة خلف خط الكيس. لا يحرك رأسه كي يلحق بها، يعلم أنها ستعود، تعوّد ربما ألا يتعلق بشيء.

على أطراف المدينة الكبيرة، “مدينة النور”، مدن أخرى صغيرة تحت “خط النور”.

*ضفة ثالثة