“المراجعات والبدائل: أي أسس لفكر سياسي مجدّد؟” عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من تأليف الكاتب والسياسي التونسي المنصف المرزوقي وتقديم الإعلامي السوري فيصل القاسم.
يطرح الكتاب الذي جاء في 312 صفحة أسئلة من قبيل: ما الذي يتميّز به القرن الحادي والعشرون ممّا سبقه من قرون، ومنها القرن العشرون نفسه؟ وبأيّ حقائق نتمسك؟ وهل ما زال لمفهوم “الحقيقة” معنى، حيث إنّ أكبر ما نواجه على الصعيد الفردي من التحديات اليوم هو تسونامي المعطيات وتسارع تغيّرها؟ وعلى الصعيد الجماعي، إضافة إلى جميع الأزمات الاقتصادية والسياسية والصحية المتلاحقة التي عرفتها البشرية على مرّ العصور، فإن أكبر تحدٍّ اليوم هو تفاقم الأخطار البيئية والوبائية إلى درجة أصبحت تهدد وجود الجنس البشري. فكيف نفهم عالمنا؟ وكيف نتعامل معه، مع العلم أنّ الأيديولوجيات الخمس الكبرى التي تتحكم في أفكارنا وأعمالنا، تبدو أن الواقع تجاوزها، وأصبحت خارج الموضوع تمامًا؟، وذلك في محاولة للإجابة عن كل تلك الأسئلة
التقييم
يرى المرزوقي أن كل الأيديولوجيات هي تجارب فكرية اجتماعية سياسية معيشة، لذا هي تستدعس إعادة النظر في المفاهيم الكبرى التي بنت عليها رؤيتها للواقع، وخاصة رؤيتها للإنسان الذي يركن وراء كل الصعوبات وكل الإخفاقات.
ولذلك وجد المرزوقي أن الوطنية/ القومية، قد افترضت أنه، للوقاية مما تختزنه المجموعات البشرية الأخرى من عنف وعدوانية، لا خيار غير رصّ صفوف الشعب المهدد على الدوام والاحتماء بدولة مسلحة مستعدة للحرب. هكذا يمكن الحفاظ على السلام والتمتع بالأمان. وقد أثبتت التجارب التاريخية أن هذا المنطق، وإن كان وراء فترات السلام المتقطعة، كان ولا يزال سبب كل فظاعات الحروب والدولة الوطنية لفرض وجودها في حاجة إلى الحرب حاجتها إلى السلام.
وركَّز كتاب “المراجعات والبدائل” -بخصوص الليبرالية– على أن الحرية قيمة القيم، وأن انتصارها سيؤدي إلى تحرر الإنسان من القيود التي كبّل بها نفسه. وأن التجارب التاريخية أثبتت أنها تفجّر أحسن ما في هذا الإنسان من طاقات الخلق والإبداع مثلما تفجّر أسوأ ما فيه من غرائز الجشع والتجبّر والاستغلال. كما اتضح أنها اليوم في شكلها الاقتصادي المسمى رأسمالية أكبر خطر يهدّد الطبيعة ومن ثم أكبر خطر يهدد الإنسان نفسه.
وبحسب المرزوقي، فقد افترضت الديمقراطية أن القيم والقواعد التي سنّتها لتسيير الشعوب كفيلة بإيجاد أحسن أنظمة حكم قادرة على تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من سلام وحرية ومساواة وعدل. وأثبتت التجارب التاريخية تواضع النتائج لأن الديمقراطية تجاهلت أو أساءت تقدير ما في الطبع البشري من شرّ وغباء وتهوّر، فأنتجت المموّل المفسد والسياسي الفاسد والإعلامي المرتزق والناخب الجاهل أو المضلَّل، مما يجعلها تحت التهديد المباشر لهذا الرباعي من داخلها في الوقت الذي تحارب فيه التهديد الخارجي المتمثل في الاستبداد والشعبوية.
أما التقدمية، فبناءً على رؤية للتاريخ كقاطرة تحمل الإنسانية من الأسوأ إلى الأقل سوءًا ثم من الحسن إلى الأحسن، فإن تقدّم الإنسانية في كل المجالات أمر حتمي، وذلك بفضل تحرّر السياسة من الدين وتحرّر العلم من الأساطير، والتطور المطرد للتكنولوجيا. وأثبتت التجارب التاريخية حدود قدرة السياسة على تغيير البشر إلى الأفضل، وهو ما جرّبه الدين قبلها وفشل، كما أثبتت هذه التجارب أن التقدم ليس بالضرورة تطورًا، وأن المسار نحو الأفضل يمكن أن يتوقف وأن يتراجع إلى أوضاع بالغة السوء.
وأمام استعصاء إصلاح البشر على كل سلطة دنيوية، افترضت الأيديولوجيا الدينية أنه لا مناص من استدعاء مقدّس متخيّل، علّ الخوف من غضبه والطمع في رضاه يقوّم ما بهم من اعوجاج مزمن. أثبتت التجارب التاريخية حدود الحيلة، وأنه لا ينفع في تطويع الإنسان لا جزرة ولا عصًا، سواء أكانت من صنع الأرض أم من صنع السماء، خاصة وأن من ينصّبون أنفسهم ناطقين باسم المقدس والمكلفين بوضع البشر على الطريق المستقيم ليسوا لا أسوأ ولا أحسن من كل أصناف السياسيين العاديين.
التحديات
ويتساءَل الكتاب: ما الذي نربح في مقابل توسيع شعورنا بالانتماء والمسؤولية إلى البشرية جمعاء؟ أهدتنا الحياة عالمًا بأسره عند الولادة، وتهدينا العالمية عندما نتبناها منهجًا فكريًا وأخلاقيًا كل ما أنتجته عبقرية البشر على مرّ العصور.
وإنه خلافًا لما تسوّقه الأيديولوجيات الوطنية والأصولية الدينية، الهوية العالمية ليست تَخلّي الشعوب عن ثقافاتها وأديانها أو خلق “هريسة” منها، إنما استملاك كل شعوب الأرض لتراثٍ مادي جماعي من صُنع جنس حيّ واحد.
ويسأل المرزوقي: ما معنى تسابق كل الشعوب لتَضع منظمة دولية اسمها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، أهمّ إنجازاتها المادية والمعنوية على قائمة تراث البشرية؟ ألا يعني هذا أن الخصوصية ليست نقيض العالمية وإنما هدفها الأسمى؟ ويرى أنه يكفي أن نتجاوز طابق الهويّة العربية وأن يرتقي بالعقل والقلب إلى الهوية الإنسانية، حتى يتعامل مع كل ما أنتجته الشعوب غير العربية، لا بحذر أو حتى بشعار المثَل العامّي “أكل الغلة وسبّ الملة”، وإنما بالثقة والامتنان نفسيهما اللذَين يتعامل بهما مع ثقافته الأولى.
ويذكر المرزوقي أنه عندما يتعلق الأمر باستملاك أفكارٍ وقيَمٍ للشعوب الأخرى، تَرى الوطنيين والقوميين والمتشددين دينيًا يمانعون ويتحذلقون ويتدللون ويقيمون المظاهرات ضدّ “الغزو الثقافي” المهدِّد لنقائهم العرقي والفكري والديني. وعندما يتعلق الأمر باستملاك كل إنسان أحسن ما جادت به الخصوصيات الثقافية من أفكارٍ وقيمٍ وفنونٍ، كم مضحكٌ أنَّ البطون أسهل إقناعًا بالعالمية من القلوب والعقول!
الموارد
يتناول المراجعات والبدائل ويتفحّص طبيعة المشاكل وضخامتها وخطرها المتفاقم على المشروع البشري، وأنه لم يعد لنا ما نرجوه من الأيديولوجيات القديمة للتفاعل الناجع مع هذه المشاكل. فالحلول الوطنية في عالم متزايد الترابط لم تعد جزءًا من الحل، وإنما أساس المشكل، وقد أثبتت التجربة بما فيه الكفاية عجزها عن التعامل مع أخطارٍ لا تعترف بالحدود، فضلًا عن كونها اليوم أكثر من أي وقت مضى أكبر مصدر للاحتقان داخل الوطن الواحد وللعنف والحرب بين الأوطان.
ويؤكد المرزوقي أنه لم يعد ممكنًا أيضًا مواصلة الاستكانة لهوس الحرية المطلقة المعفاة من كل مسؤولية كما تفهمها الليبرالية، ما يعني ضرورة عودة قوية للدولة بوصفها ضامنة لأولوية المصلحة العامة على المصالح الخاصة. مثل هذه الدولة لا تكون إلا الدولة الديمقراطية، لقدرتها على حفظ كرامة البشر السياسية وامتصاص العنف المجتمعي، وتسهيل العلاقات السلمية بين الدول الشبيهة.
وإنه من تجريب الأيديولوجيا الدينية يتضح عبث إقحام المقدس في شؤون البشر وضرورة التخلي عن أوهام الأيديولوجيا التقدمية للمستقبل، حيث يمكن سهم التاريخ أن يتوقف وأن يتراجع، وفي كل الحالات لا وجود لمستقبل واحد وإنما لما لا يحصى ولا يعدّ من المستقبلات.
يلخص المراجعات والبدائل الأهداف الكبرى في: تجند سياسي مجتمعي اقتصادي تكنولوجي غير مسبوق، للتصدي لخطر التحول المناخي المتسارع، ووضع سياسات دولية للتحكم في صناعة الأدوية واللقاحات، والسهر على حسن استعمالها وتوزيعها العادل، والتحكم في التكنولوجيا، خاصة في الذكاء الاصطناعي.
وهذا يتطلب أساسًا عودة الدولة باعتبارها عنصرًا ضروريًا للدفاع عن المصالح العامة ضد المصالح الخاصة، وإنقاذ النظام الديمقراطي بكل التشريعات والسياسات، التي تحدّ من الأخطار التي تهدده من الخارج وتنخره من الداخل، وبناء نظام دولي قائم على قوة الشرعية، لا على شرعية القوة كما تفهمها الأيديولوجيا الوطنية. وأخيرًا بناء طبقة جديدة من الانتماء إلى العالم والمسؤولية أمام الإنسانية جمعاء.
لذلك ثمة عمل جبار ينتظر أصحاب القرار في مستوى الدول والمجتمعات لترجمته إلى برامج وسياسات تتأقلم باستمرار مع ظروف الآن وهنا. لن تكون مثل هذه السياسات سهلة لا فقط للتعقيد الهائل للمشاكل، ولكن أساسًا لأنها سترتطم بسياسات متخلفة وقصيرة النظر موروثة من الماضي، تؤدي دور المكابح والعقبات والمتاريس المتتابعة على الطريق.
*تلفزيون سوريا