أنور بدر
رئيس التحرير
افتتاحية العدد
رغم تعدد التعريفات المتداولة لمفهوم الثقافة عموما، إلا أن أحداً لا ينكر أن الثقافة كقيمة إنسانية ترتبط بمفاهيم الحرية والديمقراطية وتَعبرُ منها إلى مفاهيم العدالة الاجتماعية والتطور والتحديث عموما، لأنها دون ذلك تفقد وظيفتها وعلاقتها بالمجتمع، وتتحول إلى مجرد معارف وقيم ترتبط بذوات منفصلة بعيدا عن أي بوصلة لتلك المعارف والقيم.
وربما يكون المفكر الإيطالي “أنطونيو غرامشي” أول وأهم مطوري مفهوم الثقافة في الحقل الماركسي، حين نحت مصطلح “المثقف العضوي”، أي المندمج في حياة مجتمعه وبلاده ارتباطا بسياقات الواقع التاريخي والاجتماعي الحقيقي، مميّزاً بين لحظات الانكماش ولحظات التطور والانتشار، مطالبا بثقافة ناقدة وفاعلة أكثر منها ثقافة راكدة ومنفعلة، لذلك ركز في فلسفته على الجانب العملي “براكسيس”، مؤكداً أن لا فائدة لأي نظرية بدون النشاط النقدي والعملي الذي سيعكس آثارها في الواقع، وهو أول من ربط مفهوم الثقافة بالعلاقة الجدلية بين الحرية والضرورة في تطور التاريخ.
مع أنّنا نعرف عبر هذا التاريخ مراحل من ازدهار الثقافة حتى في ظل غياب الحريات والديمقراطية، لكنها شكلت استثناءً خاصاً بتلك الأنظمة التي امتلكت مشروعا كبيرا للتطوير والنمو وامتلاك القوة، حيث قامت هذه الأنظمة بدعم الثقافة ونشر التعليم من أجل إنجاح مشاريعها التوسعية أو السلطوية، كما حصل في عصر الترجمة زمن الخليفة المأمون، أو زمن الخليفة أبو جعفر المنصور العباسي، مروراً بدار الحكمة في بغداد وتاليا مدرسة طليطلة في الأندلس التي ازدهرت منذ القرن الثاني عشر الميلادي وأعيد أحياؤها مجدداً أواخر القرن العشرين، وأخيرا تجربة محمد على في مصر والبعثات التعليمية إلى أوربا التي خلفت لنا إرثا من التنوير استمر مع رفاعة الطهطاوي وعلي عبد الرازق وطه حسين وصولا إلى سيد درويش في الغناء.
غير أن الديكتاتوريات العسكرية التي سيطرت لاحقا في بلدان المنطقة ومنها سوريا، كانت تفتقد لأي مشروع تنموي أو تحديثي للمجتمع، مكتفية بآليات النهب والفساد المستمر والسيطرة على كامل المجتمع والأفراد، وتحويلهم جميعا، بمن فيهم المثقفين والكتاب إلى مجرد موظفين وأعضاء في اتحادات مهنية مرتبطة بقيادة الحزب، لذلك انتحر الشاعر “مايكوفسكي” في دولة السوفييتات العظيمة السابقة عام 1930، بعدما رفض قبل ذلك بخمس سنوات انتحار صديقه الشاعر سيرغي يسينين قائلاً: “ليس من الصعب أن نموت، بل أن نصنع الحياة أصعب بكثير”.
هذه المفارقة كانت ولازالت ضاغطة في وعي السوريات والسوريين خلال السنوات العشر الأخيرة العجاف، حين اختاروا الرفض ولو بصيغة المقاومة السلبية، حيث غادر أغلب الكتاب والمثقفين السوريين حاضنة الأسد القاتلة ليصبحوا لاجئين ومهجرين في كل أصقاع العالم، أسوة بملايين السوريين الذين هاجروا طلبا للجوء.
أعتقد أن تلك الأفكار والهواجس كانت حاضرة في وعينا منذ بدايات تأسيس رابطة الكتاب السوريين، كنقيض لمنظمات السلطة وتابعيتها لحزب البعث القائد للدولة والمجتمع، وقد عشنا زمن الثورة بمده وجزره الذي طال، حتى أننا حين قررنا في المكتب التنفيذي للرابطة إعادة اصدار “مجلة أوراق”، كنا أمام تحديات الشرطين الموضوعي والذاتي لجهة حالة الإحباط التي تعيشها المنطقة ككل وسوريا والسوريين بشكل خاص، في تشابكها مع غياب الدعم واستفحال الأزمة الاقتصادية وأثرها السلبي على السوريين في سوريا وفي بلدان لجوئهم العديدة، وكنا نُدرك صعوبة أن نَطلبُ من أنفسنا أولا ومن الأصدقاء تاليا، تجاوز حالة الإحباط العام، وحالة العجز الذي يشكل سمة المرحلة، والانطلاق مجددا بإمكانيات ذاتية وتطوعية.
لكن من يتصفح مواد هذا العدد سيلاحظ كثافة الجهد الجماعي، وكثافة المشاركات التي جاءت من كتاب وأصدقاء كثر، مما يُبشرْ أن السوريين بخير طالما هم، ورغم كل مشاعر العجز التي تُخيّم على المنطقة، مازالوا قادرين على العمل التطوعي والنهوض بدور الثقافة كمشروع تنويري وتحديثي، وإذ نشكر كل الصديقات الأصدقاء الذين شاركوا في هذا العدد، نخص بالشكر الصديق محمد طه العثمان و”دار موزاييك للطباعة والنشر”، إذ شارك معنا في الكتابة وفي رفدنا بموادٍ أغنت هذا العدد بأشياء جميلة حقا، ولأقلام وأسماء شابة، ما نزال نعوّل على استمرار وزيادة مساهمتها معنا في الأعداد القادمة، كما نشكر الفنان موفق قات الذي أغنت لوحاته مواد العدد.
كما نُقِرْ أن محور “أدب السجون والمعتقلات” شكل حافزا لكثير من المساهمات التي عبرت عن ضغط هذه الظاهرة في زمن الاستبداد المستمر خلال نصف قرن ونيف من سلطة البعث التي صادرة المجتمع والدولة والحياة العامة، فجاءَ محوراً غنياً ومتنوعاً في زوايا المعالجة بما فيها المساهمة “في نقد أدب السجون”، فالمهم أن نعبر عن أفكارنا لا أن نتعصب لما نعتقده، فالشك أساس المعرفة.
لذلك لا ندعي في رابطة الكتاب السوريين أننا أنجزنا هذه الوظيفة أو الدور كاملاً، غير أنه يمكننا ادعاء شرف المحاولة، وربما يَفتحُ الحوار الذي ترجمه في هذا العدد الصديق إبراهيم محمود: “لماذا العالم العربي ليس حراً”؟ أبواباً واسعة لنقاشات مستفيضة، تلبي توقنا في “مجلة أوراق” إلى إثارة الأسئلة باستمرار، أكثر مما تكون وظيفتنا تقديم يقينيات جاهزة، فكلما نجحنا في طرح الأسئلة المعقدة، كلما ساهمنا بالبحث عن الأجوبة الصحيحة، وما بين تلك الأسئلة ومحاولات الإجابة تنمو وظيفة الثقافة.
انطلاقا من هذا التفاؤل نُذكر كل أعضاء الرابطة وأصدقاؤنا من الكتاب/ات والمثقفين/ات أن العدد القادم 12 من مجلة أوراق، والذي سيصدر في بداية آذار من العام الجديد، سيتزامن مع ذكرى مرور عشر سنوات على انطلاقة الثورة السورية وانتفاضات الربيع العربي في المنطقة، كما أن شهر آذار يحمل لنا مناسبات أخرى جميلة كيوم المرأة العالمي وعيد الأم، وعيد النيروز، لكنه يحمل أيضا ذكرى مرور 57 عاما على الانقلاب العسكري لحزب البعث في آذار 1963، الذي أنتج بالمحصلة هذا النظام المستبد والفاسد، والذي لم يتردد عن تدمير سوريا وقتل السوريين وتهجيرهم.
لذلك رأينا أن يتسع محور العدد القادم لكل المناسبات السابقة، فالثورة والربيع العربي هما الرد الطبيعي على عقود الاستبداد والفساد العبثي/ الأسدي، والثورة هي إعادة تشكيل لمستقبل السوريين وهويتهم، بدءاً من مطلب الحرية والكرامة، ووصولاً إلى دولة المواطنة والمساواة بين كل السوريين والسوريات، بغض النظر عن الانتماءات الإثنية أو الدينية أو الجنسية، فسوريا تكبر بأبنائها، وتزدهي بربيعها القادم لامحالة.