لقد أعطى ياسين الحافظ مقولته الشهيرة للوعي الحقيقي ثلاثة أبعاد: الكوني، المناسب، المطابق. وأصبحت مفردات هذا المقولة الفكرية – السياسية على ألسنة الكثيرين من الكتاب والمفكرين العرب، حيث تحولت هي الأخرى كالعادة إلى وصفة علاجية لأكثر مسائل ومشاكل الواقع العربي عمقاً وتعقيداً، دون البحث في تكييف مهمتها مناسَبة ومطابقة. فألقيت جميع علل التخلف ومضاعفاتها، ومتطلبات التقدم على سحرية وعي ٍكوني ٍ مناسب ٍ ومطابق: الوحدة والتجزئة، التخلف والنهضة، قبلية وطوائقية وقومنة المجتمع، موانع ودوافع النهوض، الأقلية والأكثرية، وباختصار: أن إشكاليات العقل العربي كله السياسي والفكري والاجتماعي، أُستُنفذت بـ “وعي ٍ كوني مناسب ومطابق” . لكن مناسب لمن والى ماذا؟ وماهي مكونات الوعي الكوني؟
كيف ندرك هذه المقولة المفهومية، ومعنى تكونها وعملها بين الداخل والخارج، بين الأنا والاخر: نحن والعالم ؟
مع الأسف، إن الزمن لم يسعف الحافظ، كي يولي الإهتمام اللازم لكيفية امتلاك وتجنيد هذا الوعي بشكل واف ٍ، ومواجهة مُعيقات خلاصنا من الفوات المتمكن منّا .
إن واقعاً لم يـتجاوز حـالـه الفكري والايديولوجي السياسي والاجتماعي زمـن الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو، وفي ظل اندياح الثورات الشعبية الخالصة وغير المتوقعة، حيث هي بلا نخب ولا احزاب ولا ايديولوجيات. هذا الواقع المفاجىء والمتفجر بكل ثوابت الاعتقادات التي انتهت اليها معظم التيارات السياسية والفكرية العربية، واخطرها ملخّصٌ بـ: أن الشعب العربي مات، وأن ما هو قائمٌ من تأخر وديكتاتوريات شبه ابدي. لم يكن هذ الاعتقاد مقتصرا على مخيلة المجتمع فحسب. بل كان سائداً الى حد كبير في ذهنية غالبية النخب السياسية والفكرية، حيث بدت المجتمعات العربية عصية
على صيرورة التقدم, ولم يبح ياسين الحافظ بألمه حين قال: ليس هناك ضمانة لنا الا الامل، نتيجة حال المجتمع السادر فحسب, بل كان وبالاساس قادماً من شلل العقل العربي واجتراره لذاته باحسن الاحوال. الكدمة الهائلة التي وجهها الينا هذا الواقع بسبب احتجاب عقولنا المزمن عنه، يـحتاج أول ما يحتاج الى ثورة تزلزل رؤوىسنا، وتهدم جميع أصنامها كضرورة لا بد منها، من أجل ولادة فكرٍ أنسي وخلاق، يلاحق الـنـابـض المتحرك في حياتنا, وذلك بموازاة جهد دؤوب ومتواصل لفهم مفاتيح التقدم التي فتح بها الاخرون بوابات العصر بغية الوصول لما يسمى وعيٌ كوني، مناسب ومطابق.
الوعي الكوني المناسب والمطابق هـذا، لا يمكن أن يبدأ إلا على جدلية معقودة بين: خارجي ـ عالمي وداخلي -محلي، على غير ما يعتقده الكثيرون، بأنه صناعة برانية محضة، حيث يعتمر هناك خارج حدود الواقع، ويتكونن على مفاهيم من ابتكر التقدم العالمي، يعيشه ويقود تاريخه، لكن الكوني ليس وجوداً برانياً محضاً، ونحن لا نعيش إلا فيه .
إذاً الوعي الكوني لابد ان يكون ذاتياً وموضوعياً، اي إن سبب ذهابنا للاخر هو حاجتنا له: حاجة الضعيف للقوي والمتخلف للمتقدم، كما أن علاقتنا على اختلافها بالعالم قائمة على هكذا وقائع. من هنا سوف يكون للنخبة في المجتمعات المتخلفة دورٌ مهمٌ على الصعيد الآيديولوجي الثقافي والسياسي الاجتماعي، هذا إذا استطاعت أن تعقلن نفسها بوعي معرفي موضوعي وإنساني، ذي شمولية، تضفي على الذاتية صفاءاً ذهنياً ورؤية هادئة وعميقة، تعمل وتدفع باتجاه أهلنته كي يكون مناسباً لزمان ومكان مجتمعها وأحداثه، ومطابقاً لحاجات تقدمه ومستلزمات حراكه النهضوي.
لن تمتلك نخبةٌ ما مكونات النهاجية الفكرية القادرة على دخول واقعها من أجل فهمه، إلا إذا اجادت علاقتها البرانية المتمثلة بفهم صياغة كيفية التفكير ومفاتيح ناسها المختلفة والمتخلفة، المهمة البرانية تعني فهم تطور الاخرين، وليس نقل أفكارهم نصاً وصورةً في مقولات أو نظريات، تُستنفذ بالوعائظ والمحاضرات المستظهرة. .
وبذات الأهمية، إن لم تكن أكثر، هي مهمة الفعل في
الداخل الذاتي. فمهما بلغ الاجتهاد الفكري من تقدم وحيازة، سوف يبقى ناقصاً رغم استيعابه مكونات مفتاح نهوض الغير، ويبقى عاجزاً أمام فتح ابواب مجتمعاته ولغاتها النفسية والذهنية. فنحن في المجتمعات المتخلفة بحاجة أشد إلى نخب، عرفت كيف تمتلك اللسان المحلي، تستهدي به الينا، تتلمس حالنا واوجاعنا، تفهمنا ونفهمها، بغية الوقوف على ما يعيق حراكنا، ويستهلك عمرنا.
كل ذلك لن يكون، إلا إذا انتهت معركة العقلنة باحتلال العقل للساحة الفكرية والآيديولوجية، وانهزمت العقائديات المغلقة على صعيد النخب الثقافية والسياسية.
ودون حيازة تلك العتبات اللازمة، والتي لا غنى عنها في سبيل امتلاك إمكانية الفعل. فالتكونن والتوقعن عملية جدلية لا غنى عنها، كي نحقق ما يسمى بالوعي الكوني المناسب والمطابق .
إن تنامى ادعاؤنا وثقافتنا لمفاهيم المجتمعات المتقدمة كالعلمانية والليبرالية والديمقراطية وغيرها، سوف لا يزيدنا إلا اغتراباً عن ناسنا، إن لم يكن وعينا بها مناسباً أولاً، ولم نجد لمفاهيمها سبيلا للتحقق والتجسد ثانياً .
سنخطىء المعنى الحقيقي لمفهوم {المناسب والمطابق} الذي اطلقه المفكر يا سين الحافظ، إن لم يكن فكراً يفهم الجـدل، ويعرف كيف يـبحث عن مفاتيح دخول الواقع بغية الادراك الجواني بقضه وقضيضه، ويدفع به باتجاه التقدم.
ومن الضروري جداً، الا ننسى أن مهمة هذا الـوعـي هي: أولاً فتح رؤوسنا، كي يستطيع واقعنا الدخول فيها. مثل هذا الوعي وحده يضعنا فـي وأمام واقعنا لافوقه. رفض الحال- الواقع، لن يكون بالزجر والعجرفة. بل بالفهم والتجاوز دون ما نحن سوى متطفلين، لأننا لم نفهم كيف نعمل على إنارته وتثويره على ذاته، نستحضر الأفغاني وعبدو كلغة ووسيلة مناسبة، نحقق بها خرق اغترابنا عن الواقع، ملتزمين باعادة النظر الدائمة لرؤيتنا التي عليها هي الاخرى اللحاق بتطورات الواقع المتجددة دائماً، وعند كل مرة تتعين مهمتنا بابداع ما هو مناسب، وازالة مُـعـيـقـات هـدفـنـا.
هكذا فقط تبدأ عقلنة الآيديولوجية الدينية والإجتماعية. وهكذا يعود حصاننا التاريخي امام عربته، ونفعّل محراثنا
الاقتصادي في فرسخة بنيتنا المتبلدة على يباس القبيلة والعشيرة، وننتقل من عقل ولاية الفقهاء السحري، المنفعل والمكتفي بتكفير الواقع وشتمه، إلى فكر يرفع أفكارنا وافعالنا عن وهمها وفذلكتها، فكر يرمينا في قلب الواقع، كي نتعلم كيف نكون. وكيف نؤم المجتمع بقيم الحق والحرية والعدالة، وليس جماعات لا تجيد سوى اللطم على حال الأمة.
*خاص بالموقع