أديب البردويل: لــلــثــورة أشــواكــهــا أيــضـــاً

0

إن حال المثقفين والسياسيين العرب المذهول والمتفاجىء حيال الربيع العربي وثوراته ، ليس مستهجناً البتة ، فهم أصيبوا بدُوار ٍ وإختلال ٍ مفهومي حيث كان أغلبهم قد أعلن موت الشارع العربي ولم يبق سوى دفنه .

“شوفة” الحال هذه، صاحبة اعتدادهم المزمن بأنفسهم ، راحت تفتّش عن مدخل يعود بهم إلى اعتبارهم الإفتراضي؛ لكنهم لم يجدوا، لا من قريب ولا من بعيد ، ما يُشير إلى أيّة علاقةٍ لهم بالثورة إجتماعيةً كانت أم فكرية او سياسية ، يحافظون بها على القليل المتبقي من ماء الوجه .

ــ الغربة الطويلة العميقة التي عاشها هؤلاء عن مجتمعم ومستلزمات تحرّكه، تكثّفت وتأزمت أكثر في زمن التثوير

هذا، حيث جاء عاصفاً دون إذنهم، ودون زمن التنوير الذي اعتُبر على الدوام مقدمة سابقة، وضرورةً طبيعية وبنيوية لابد منها، كي تأتي الثورة نتائجها المطلوبة في منطق التطوّر. إلا أنهم عجزوا تماماً عن استقدامه حسب الأجندة والمسطرة الغربية للثورات؛ لذلك هم، وبحسب صراع البقاء، ولأنّهم كانوا وما زالوا غرباء، استطاعوا أن يعودوا من تشتتهم، وأن يأخذوا من ذاتهم متراساً للدفاع عن غيهم من جديد. وكعادتهم راحوا يبحثون عن أعداء لهم كي يُثبتوا وجودهم، بعد أن فقدوا انتماءهم السياسي والفكري للمجتمع ، نتيجة عيشهم زمناً ليس قصيراً في منفى أوهامهم، والغربة هذه هي مأواهم الوحيد الذي يقبلهم نزلاء فيه .

باسم التنوير يقف عدد غير قليل من العرب ممن يدّعي العلمانية والديمقراطية والشطحات القومية ضد الثورة السورية ، لكنني، ولأنني معني أولاً بموقف المثقفين السوريين، سأتناول من جديد مثقفين أكثر سخونةً في الثورية والتقدمية والليبرالية ، وما إلى ذلك من أسماء الحسنى للحداثة.

لا بد من أنْ أسارع هنا لاقول: مما لاشك فيه أن الثورة السورية العظيمة قد واجهت إشكاليات عميقة وكبيرة، أهمها: غياب السياسي الذي يتولى مهام قيادتها وتصويبها، وغياب السياسي هذا ذو سببين:

1 ـ قمع وضرب نظام آلـ الأسد المعارضة السورية بالحديد والنار وتفتيتها بحيث لم يعد لها امكانية القيام بمثل هذه المهمات التاريخية.

2 ـ سبب ذاتي يكمن في بنية العمل السياسي والفكري للمعارضة التي لم تعي تماماً معنى وجودها، ولم تستطع أن تمتلك الوعي المناسب والراصد لنبض المجتمع وحراكه، والملبي لاحتياجات تقدمه.

مما أدى هذا إلى تعرضها لإصابات بليغة بسبب تدخل الخارج في قابلية مجتمعنا المتدينة، باتجاه تكوين جماعات دينية عسكرية، أطلق النظام قادتها من سجونه، بغاية تحقيق ماربه الهادف لتمزيق الثورة وجعلها مدانة بوصفها تكفيرية. هذا يعني أن يد الشيطان اغتالت الثورة السورية، يدٌ مدججة بحقد نظام ديكتاتوري، ومسنود بأنظمة غائرة في

الطائفية المتوحشة، مضافاً إلى هذا سذاجة فكراوية متأففة من عدم النقاء، وعدم قيام الأمثولة المتخيلة للثورة في أذهان علمانويينا بكل أشكالهم.

قد سبق وسجّلت ملاحظتي على موقف كل من ادونيس وجورج طرابيشي الفكري والسياسي، كمثال، من الثورة السورية ، حين اعتبر الأخير أن الربيع العربي وثوراته ليس إلا ردة فعل على (‘سياسة الأنظمة الاستبدادية خلال عقود دفعتنا لاحتضان الربيع العربي حتى قبل أن يولد)’ ….، كما أنَّه قال : (فنحن راهنَّا على هذا الربيع حتى قبل أن يولد كرها منا لهذه الأنظمة التي أذاقتنا الجحيم على مدى عقود طويلة، ولكن مع الأسف اكتشفنا فيما بعد أن هذا كان أيضا مجرد اوهام)

والآن، هل يختلف ما يؤمن به هؤلاء عمّا دفع به عتاة إستبداد الأنظمة التي (أذاقتنا الجحيم) عندما زج بشار الأسد مجموعة مثقفي ربيع دمشق في السجون ، لمجرد أنهم أيدوا كلمة قسمه الرئاسي، وطالبوا بما جاء فيها من تلميح ألى الحرية والديمقراطية، معلّلاً ذلك بأنًّ المجتمع

السوري مازال دون عقل ٍ لائق ٍ بممارسة هذه الحرية والديمقراطية ؟.

أوليس ذات الإتهام التكفيري الموجه للثورة السورية من قبل المافيات الإيرانية والروسية وجلاوزة حالش ،وسكاكين الأسد التي ذبحت أطفالنا …؟

أمّا رد طرابيشي على نقد الكاتب الإسلامي رضوان السيد له، في مقالة {الحملة على الإسلام والحملة على العرب } ، والذي أتناوله الآن ، لم يكن صريحاً ولا واضحاً ، ولم ينف ِ طرابيشي ما اتهمه ووصفه به السيد.

السيد يتهم ثُلَّة من المثقفين العرب والسوريين بخاصّة، على أنّهم أصحاب حملة باسم العلمانوية على الإسلام، وقد تجلى ذلك في زمن الثورات العربية، فالعقلاني والليبيرالي والثوري هو (برأيهم) من تسقط من لغته مفردات مثل : الله، الدين، الإسلام، إذا ما أراد أن يكون تقدميا وحضارياً؛ وإلاّ سيكون مكفَّراً بتهمة التكفيرية، هذه التهمة التي أصبغها الطغاة العرب على كل من لم يعلن ولاءه لهم. راجت على ألسنة بعض المثقفين المحسوبين في الظلام على المعارضة الفكرية، وكل الموالين لسلطات

الإستبداد، كلمات مثل: الإرهابيون التكفيريون. والتكفيريون هنا تعني: المفهوم الديني للكلمة. وفي ظل مكونات الثورة السورية الطوائفية ومعطياتها، وعلى اعتبار أن البلوة الأسدية استطاعت أن تصيب عقل الأقليات بلوثة التطوؤف الإصطفافي، وضمَّ غالبيتها تحت جناحيها ترغيباً وترهيباً.

قرأ الكاتب رضوان السيّد هذه الألسنة على أنها حملاتٌ تُشنُّ على الضد الطوائفي الثائر على مستبديه، وهو بوضوح مبطن ٍ أو معلن ٍ: أهل السنّة،بوجه عام..

وإذا استثنينا الديكتاتورية الأسدية، لم يمنع أحدٌ حزباً سياسياً، أو مثقفاً، أو مفكراً، أو نخبةً عن قيادة حركة المجتمع، ناهيك عن ثورته إلا الإستبداد نفسه. كما أنَّ اتهام ناس الثورة بالتخلف والتدين إلى حد الإرهاب والتكفير بدون تخليل أو تفسير موضوعي، هو اتّهامٌ ليس غير غير بريء فحسب، بل هو سؤالٌ يتهم سبب وجود هذا المثقف أم ذاك، وفضح علاقته بمهمته التي كان يجتّر بذكرها على طول لسانه وسنواته، مهمة تأخذ على عاتقها توعية الحراك الإجتماعي في واقع موصوف ٍ من قبله

بالتخلّف ..واستلابه بالايديولوجية الدينية. أوليس من اللاعقلانية أن نطالب (المتخلفين) أن يُنجزوا الثورة المُتخَيَّلة في ذهن { المثقفين التقدميين } إنجازاً صافياً ورائقاً لأمزجة بعض الشعراء، وأباطرة الفلسفة والتحاليل النفسية .

المفاجأة الثورة، أو الثورة المفاجئة ألحقت بالعقول السياسية والفكرية السورية ارتجاجاً عميقاً، لابسبب غربة تلك العقول عن الواقع وعدم فهمه فحسب، بل بسبب موقفهم المنحاز للإستبداد، حين يتقاسمون معه تهمة الشعب وثورته بالإرهاب والتكفير، أو موقفهم المتبرج والمتفرج بأحسن أحواله .

يقول رضوان السيّد:

“ولستُ أدري ما العلاقة بين انزعاج جورج طرابيشي مثلا من الأرثوذكسية وأهل الحديث في القديم، وانزعاجه من فظائع الأصوليين، وعدم انزعاجه من بشار وفظائعه؛ وهو وأدونيس وعزيز العظمة وأشباههم! كل المعارضين الذين هم ضد مذابح بشار (بمن فيهم ميشيل كيلو المسيحي الماركسي) هم في نظر هؤلاء: طائفيون! أما الأسد ونصر

الله فهم علمانيون تنويريون، وإلاّ فَلِمَ لم يحملوا عليهم كما حملوا على كل المعارضين لبشار بالداخل والخارج إمّا بحجة الإرهاب أو بحجة الطائفي ..

دعوني من مشيل كيلو ، لأنّة من الصعب بمكان أن يُتهم بالتكفيري، لأن هذه التهمة على مايبدو أُلصقت بالمسلمين فقط شرقاً وغرباً ..”.

لكن ماذا عن الدكتور عبد الرزاق عيد ..الشديد الماركسية؟ ولماذا لم يُصب بخيبة أمل جورج طرابيشي من الربيع العربي وثوراته ..؟ هل لأنّة مسلم وإرهابي تكفيري مثلاً …؟

إنّ رد جورج طرابيشي على اتهام رضوان السيد ردٌّ خجولٌ ، يتحاشى التورّط بدخول الموضوع جدياً ومفصّلاً. فهو يرد رداً عائماً وبما معناه: إنه لم ينقد إسلام السنّة فقط، فهو له كُتُبٌ كثيرة في نقد كل المذاهب الإسلامية ومنها الشيعة. هذا الرد فيه شيء من استغبائنا، لأنه يعتقد بأننا لا نفرّق بين نقد المذاهب والطوائف في زمن قبل الثورة، وبين نقدها في زمن الثورة، ويظن أننا لا نعرف أن الفرق بينهما جدياً وجذرياً ..وأنَّ هناك فرق

بين الدين وتحالفه مع التخلّف مثلاً، وبين الدين الذي يثور ضد التسلط، وضد أصنام الآلهة التي خلعت الله من عقولنا، ونصَّبت نفسها مكانه .

وتخلل ردُّ طرابيشي على السيد استعراضاً ذاتياً، لم يستطعْ به أن ينال استثناءاً نضالياً حين اشار إلى معارضته وسجنه من قبل النظام السوري، ولم يستطع أن ينال امتيازاً سياسياً يغطي به سقوطه في موقفه من الثورة السورية، بدليل أنه لم ينف خيبة ظنه بثورة الشعوب، وحادث دخوله السجن ذات مرّة، لم يستطع أن يبرىء رأيه بالثورة.

اخيراً وليس آخراً، يامن تحبون أن يكون غضب الشعب وكرهه للاستبداد ، وفقدانه للكرامة والإنسانية، أن يبقى هادئاً رومانسياً بعطره وبذلته الأنيقة، وأن يحمل باقة ورد أحمر ويقف أمام باب مثقفينا ينتظر خروجهم، أقول:

للورود والثورات أشواكها أيضاً.