لابـــدّ حــيـن نـتـكـلـّــم عــن الـفـــوضـى بـمـفهـــومهـا العــام ، أن يـحضـــر بقــوّة مـعـنــىً آخــر لـهــا ، خـاصٌ و معــروفٌ ومـتــداول في الأزمات والأحداث والثورات العربية بـإســم : الفـــوضـى الـخـــلاّقـة .
هــذا الـمفهــوم للـفــوضـى الـذي ردده مسؤولون في الرئاسة الأمريكية كثــيراً قـُبيـــل وبعــد الإحتـــلال للـعــراق (كوندليزا رايز) . كـان ومـازال , بقصــد تـكـــوين شــرق أوســـط جـــديد؛ صــارالـغــرب يـراه ضـــرورة لأســباب لا مـجــال لــذكــرهـا الآن .
الـفـــرق بـين فـــوضـى عـفـــويـة ، وفـــوضــى خـــلاّقـة ، هــو : أنّ الأولــى تـحــدث دون أن نـعــرفَ زمـن حــدوثهـا ، ولا مـتـى تـكـــوّنت أسـبابهـا ، ودون أن نـتمكـّن مـن الـتــدخّل فـي مـجـــريات أمــورها ، كالكــوارث الطبيعيــة .
أمّـا الثــانية أي الـخـــلاّقــة ، تـختـلـــف وتتـمــيـّز إلـى هــذا الـحــد أو ذاك عــن العفـــويـّـة بدلالة صفتها “الخلاقة”، أي أنها هادفة ومجالها مجتمعياً، فهي إذاً مـُتـَعمـّـدةُ الأســباب ، ويـمكننـا أن نتـفـاعل معـهــا، أو نفعــل بهـا وفيهـا شريطة التدخل في أسبابها أو فهمها .
إن الـفــوضـى الـخـــلاّاقــة هــذه ، هـي فـــوضـى متعمـّـدة الأحــداث, ويكــون ذلــك بتـوفيــر أسبابها، والتهيئة والتمهيـد لها، يطمـح الـمجتـمــع والـفــرد أن ينتـقــل بـواســطتهـا إلـى حــالـة اجتماعية ــــ إنســانيـّـة جـديـدة. لكن لا يـمكن تـحـديد بدايتها أو نقطــة مكانها، أو حالة نهايتها، إنـما يـمكننـا التفــاعـل معهـا، ووضــع بـصـمــة تـأثـيــرنـا فيهــا وبها، مـن خــلال توجيــه وتــدويــر بعض مـن زوايــاها. الكــون قـد خُـلــق مـن فــوضى، وأن اللـه في عليائه، قــد اختــار الفــوضى لـيخلــق منـها الكـون، هــذا مـا يعتـقـده الأب “ديف فليمنج”، وأضــاف: لـم نفهـم كيــف حـدث ذلك، لكننـا متأكـدون أن الفوضى كانت ضـرورة مهمـّـة فـي عمليـّـة الـخلــق.أمـّـا عــالـم النـفـــس “مارتن كروزرز” قــد أكّــد أنّ الفــوضى هـي إحـدى العــوامل الـمهـمـّـة فـي علـم العلاج النفـسي، عنــدما يـدخـل الإنسـان الفـوضى، ســيفقد توازنـه، ويـخــرج مـن سـيطرتـــه علـى وعيـه الـذي يـحتـوي مفاهيمــه الـقـــديـمـــة، والتي تشـكل ضـوابطه الإجتماعية والفكرية أي: عقلـه الواعـي فـي إطــار الـواجــب الأخـــلاقـي والفـكــري الإجتـمــاعــي القــائـم، حينهـا يـمكـن أن يـحــدِث اللامعقول … حيـث يـتمكـّـن مـن تكـوين هـوية جـديدة ، بقيــم ومفاهيــم حـديثـة. الـقــديـم ليــس هــو مـن يفـــرض الـجــــديد، بــل ضـرورة واسـتحقاق تـــدمـيره أوّلاً، وكــلّ شيء يـحمــل نـزعــة فنــائه ثانيـاً.
وفي كتابه عن “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” يقول عالم الاقتصاد شامبيتر: (ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد، بل إن إزاحته التامة هي التي تقوم بذلك، معتبرًا المنافسة الهدامة تدميراً يساهم في خلق ثورة داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة…)
واقع النــاس هــو حيــاتهم بكل مافيها، خبــزهم وماؤهم وأحــلامهم ورغبـاتهم، ونتيجـة هــذا، كان وسيكون الواقع فـي تطــور مستمر. دائمـاً إذاً هنــاك نــزعــة تـُلازم الإنسان، قائـمـة بـين مـا حققـه مـاضيـاً وبين ما يبتغيــه مستقبــلاً، هــذه النـزعـة يسـمونهـا فلسفياً “فجـوة الإسـتقرار” وهـي الـمنطقـة التي تسكنها تلـك النـزعـة الـمبــاركة، فبقـدر ما تتسع تلك الفجــوة بقــدر مـا يتســع الإحبـاط وروح الـتمــرّد فـي الـمجتمــع، وفــي ظـل الإسـتبـداد يتصـاعد ذلـك الإحتقـان شيئاً فشيئاً حـتّى يصـل إلـى فــوهته. ولكي لا ينفجـر يـلتـفّ الـطــاغـي الـحــاكـم حــوله بإصــلاح سـياسي، وذلك بـقـصــد اســتيعاب قلــق وقهــر الـحــال. أمـّـا إذا كـان الـمجتمـع محكــوماً بـفـرديـّـة مطلقـة وصـمــّــاء كـمــا هــو فــي الديكـتــاتوريـّـة التـي حـكمـت ســـوريا منــذ بـدايــة السـتينـات إلـى الآن, سـيكون مـن الصعــب الإســتمرار وتـمــرير الإحتيـالات الاٍجــرائيـة الـتـي حاولت وتـحـــاول أن تـمتـصّ غضــب الواقع، مـمّا يـعطـي إسـتعـداداً وتـمهيــداً لقيــام الفــوضى الـتـي سـتؤدي فـي النهـاية إلـى مفـاجآت لـم يتـوقعهـا أحــدٌ .
لم يكن شعار الشعب السوري : { ياالله مالنا غيرك ياالله } إلا تعبيراً حقيقياً عن شعوره بالغربة, حيث أمضى عمراً معزولاً بين عنجهيتين: عنجهية الإستبداد الحاكم من جهة, وبين عنجهية آيديولوجيات المعارضة ذات اللغة المتبرجة بألسنة غريبة ولغات ٍإستعلائية انكى ما فيها تباهيها بعدم فهمها. ذاك العدو المستبد يمارس القمع والقهر بالحديد والنار، وتلك الصديقة التي تتعالى وتضطهد الناس بادعائها الوعي غير المفهوم وذلك بسبب جهلهم، هذا الجهل هو السبب الوحيد لوجودهم، وتبرير ادعائهم على أنهم سيقودون المجتمع ويهزمون التخلف، إن تميزها النوعي والمغالى به لا يحتلف عن تعالي السر {الكهنوتي} المفروض على الإنسان بالايمان، والخضوع الذهني العام لقوة قادرة على خلق الطريف باتجاه الحياة والاخرة.
إن حال الثورة، اثبت أن الديكتاتورية الحاكمة، كانت وماتزال تفهم حال المجتمع السوري اكثر بما لايقاس من المعارضة السورية، بدليل إمكانية تدخلها الناجحة في الإساءة إليها، والقدرة على استثمار {الفوضى} التي سوف تكون في أية ثورة تقوم، بينما المعارضة بقيت مذهولة بما يجري، واكتفت الى الآن باتهام سلطة آلـ الأسد على نشر {هذه الفوضى} من اجل تحقيق غاية تلويث الثورة وتشويهها. لكن الدم السوري الذي سال غزيراً، سوف يكون القادرا على قهر أكبر ديكتاتوريات العصر وأوحشها، وسوف يعلّمنا ماهو الفكر والعقلانية، علينا أن نفهم وأن نتعلم من الواقع والناس، ونكف عن اعتبارنا أننا معلمو الواقع، أن الشعب هو الفيلسوف الأكثر إرادة وفهماً للحياة والإنسان