أدهم حنا: تاريخ جديد للواقع السوري… جوقة عزيزة نموذجاً

0

تدور الدراما السورية عموماً في حلقة مفرغة، ليس من سوء كتّابها، بل مما يتاح لهم ويستطيعون الكتابة فيه، وبالأصل الدراما السورية دراما السوق الخليجي الإنتاجي والتلفزيوني، أو دراما الرأسمالية التجارية الناشئة، التي تتعيّش على الرغبة والسوق أكثر من أي خلفية فنية أو معرفية.

في أكثر من مناسبة، يتحدث كاتب درامي أو ممثل ما، عن أحوال الدراما فيقول: الكتابة حسب (التيمة). الكلمة الآتية من مصطلح (theme) أي النمط المراد الكتابة عنه. والذي يريد الكتابة ويحدد النمط هو فقط الإنتاج، لا المعنى أو الحاجة أو المعرفة، ولا الإبداع القائم على استشفاف الواقع وفهمه. لكن حدثاً ما بدا جيداً في الدراما هذا العام، هو مسلسل “جوقة عزيزة”، واللغط المستمر بين المؤسسة الدينية السورية وأتباعها من شبان غيورين على الدين وبين كاتب المسلسل وشركة الإنتاج.

“الحياة هي مرآة الفن لا الفن مرآة الحياة”، قالها أوسكار وايلد ساخراً، والجملة تبدو لائقة للمّ شمل ما يُسمى في الإنتاج الفني “البيئة الشامية”، والتي باتت رمزاً لحياة العرب عموماً قبل مئة عام من الآن. هذا لا يعني أن ما قدمته البيئة الشامية بعيد كُل البعد عما كان سابقاً، لكن الاعتراض يكون على النموذج الإرشادي للحكاية المطروحة وطبيعة الشخصيات فيها، وتحول الدراما حكاية أخلاقية، وأن تبدو سلوكيات الماضي سلوكيات شائعة. وقد يكون التورط الانطباعي في العقيدة العمياء، والتعصب الديني الأعمى، بصفعاته المؤذية والمرعبة، قد تجسدت بأفضل تعبيراتها في مسلسلات البيئة الشامية. العقيدة العمياء المستخدمة درامياً جذبتنا جميعاً للسؤال: هل نحن مجتمع “باب الحارة” وأمثاله حقاً؟ أم هل جعلتنا مسلسلات البيئة الشامية ما نحن عليه الآن؟

أي جواب هو وثيق الصلة بعلم الاجتماع، حجم الانجذاب بين ما يُقدم لنا، وما ينجذب إليه الجمهور ويتعلق به ويمارسه بوصفه مرجعية. غيرت فنون البيئة الشامية العمياء صلاتنا المأمولة، ليس لأنها صنعت واقعنا، بل لأنها جرّدته. بمعنى آخر، ما سخر منه وايلد أصبح حقيقة، نحن لسنا على ما يرام، كل شيء أصبح أخلاقياً ضمن بيئة متخيلة أخلاقية وساذجة من دون أي جدوى. هي أقرب لحميمية دينية، وأي حكاية أو شخصيات تحلم بسياق أخلاقي كامل ومثالي لا تلزم لعرضها أو تحويلها إلى دراما. في الأصل، ليس هذا عالم الدين والأخلاق. إنها دراما اضطرابية. فمغزى الحياة على الأرض، للشخصية الدينية أو المثالية، هو فوق، وليس عالمنا الأرضي هذا.

من هنا تظهر أهمية “جوقة عزيزة”، للكاتب خلدون قتلان. تأسيس الصلات الإنسانية بالمعنى الواقعي، ضمن البيئة التاريخية التي قد يتوقعها الإنسان الطبيعي في نظرته لما سبق. كُتب النص ضمن افتراضات ثلاثة: دخول الحداثة بشقها الفني الحديث، وتأثيرها في الجماهير والسياسة والمجتمع، ووجود الدين وحالة التدين في المجتمع. على مستوى الحداثة، التقط الكاتب أهمية إلقاء الضوء على الفن، ليس بوصفه دلالة معرفية، بقدر ما هو منتَج اجتماعي، الموسيقى (المسرح) باتت واجهة للاجتماع والانفتاح البشري، ومن ثم واجهة اجتماعية نحو الوصول والتواجد. في بداية القرن العشرين، نمت سوريا حقيقة نحو إنتاج المعيار الفردي المتحرر من أي قيد، من دون الانجذاب لجماعات السلطة الدينية أو الوجاهية. لفرنسا يد في هذا، في محاولة نقل المجتمع لإدارة شؤون البلاد بطرق حديثة. وكانت الموسيقى والاحتفال والبحث عن الفرح إبدالاً للتجمع البشري السياقي العائلي والديني.

أما الارتباط بالسياسة، فكان الإشارة إلى اغتيال أبو الدستور السوري، وهذا شديد الأهمية. هناك مقياس اجتماعي وحيد للبيئة الدمشقية، فإما العلاقة مع التركي، أو العلاقة مع الفرنسي. في هذا كله، نشأت أساطير تُظهر السوري بلا عقل، على شاكلة أن لسوريا تاريخ بدأ بـ”البعث”، بلا أي شيء، معياري وأخلاقي ينطلق من ضرورة بناء دولة أو برلمان كان السوريون يسعون نحوه وله. اغتيال أبو الدستور تلته اغتيالات أخرى، وكان لهذه الاغتيالات صدى وتأثير كبير لدى السوريين، وقد تكون الإشارة إلى اغتيال فوزي الغزي، دلالة يحتاجها السوريون للتفريق بين معنى الاغتيال وصداه الاجتماعي، وما شهدته سوريا ما بعد حكم “البعث” من ظواهر قتل من دون أي انعكاس اجتماعي. فبعد فوزي الغزي، شهدت سوريا خمسة اغتيالات أثّرت في الناس وجعلتهم ينتفضون جراء ارتكابها.
تحرك البشر نحو إنتاج التواصل الاجتماعي بظواهر الاحتفال والتعبير، وكسر الصورة النمطية للمشايخ والتي صورتها مسلسلات البيئة وكأنهم أقرب للصحابة، كانت المهمة الأبرز للعمل. هناك درس لـ”جوقة عزيزة” في ذلك: لا بيئة دمشقية على طريقة “باب الحارة” بعد اليوم. وبعيداً من المغالطات الفنية في العمل، وهي كثيرة، مثل طبيعة الألحان والأغاني المكتوبة بلغة حديثة، والتمثيل الكارثي لنسرين طافش، وانفصال سلوم حداد الكُلي عن الطبلة التي يضرب عليها، فإن هذا لا يلغي سياق الحداثة في العمل، الواقعية، الدراما التي تُكتب عن بشر حقيقيين عاشوا في سوريا وقرأنا عنهم في كتب التاريخ. 
تُعيب المسلسل بشكل قطعي استخدامات المظاهر الحديثة من الثياب، فالدانتيل الذي ظهرت به نسرين طافش مثلاً، كافٍ ليحل أزمة الدانتيل في العالم حينها، إذ فات الكاتب والمدقق الإنتاجي أن زمن المسلسل كان زمن انقطاع الدانتيل من العالم كُله جراء الحرب العالمية الأولى. والمثير للسخرية، لا النقد، الألوان التي سمح المخرج لنسرين طافش بأن تظهر بها. هذا الاستعراض الذي اختارته شركة الإنتاج، يدفع الفكرة أحياناً من باب أهميتها، إلى سياق مبتذل من التسويق الفني. وهنا لا أميل لمهاجمة الكاتب الذي يتعرض لهجوم من الطبقة الدينية الدمشقية، بل شركة الإنتاج التي لا تملك، رغم ما ظهر من قدرتها المادية، همّاً معرفياً لتنظم الثياب، أو تجعل مواقع التصوير أكثر واقعية وتناسباً مع بداية القرن العشرين. وهذا لا يساوي قلة الأموال، بقدر ما يتناسب مع طبيعة صنّاع الدراما وعدم احترامهم للجماهير التي تحمل حساً نقدياً بالتأكيد، لكنه لا يبدو مهماً لهم. ما يبدو شائكاً هو أن تشاهد نصاً درامياً مهماً، ضمن سياق إنتاجي استعراضي، بالكاد يقرأ ما بين يديه. في هذا، لا تبدو الأهمية إلا لسياق تاريخي في الدراما السورية.

“جوقة عزيزة” محاولة ممتازة من خلدون قتلان لمحاولة جعل ما بدا من قرنٍ مرّ واقعياً. أقله، استطاع الخلدون، ضمن “التيمة” المطلوبة، جعل تاريخ السوريين معرفياً، مهما شاب العمل من مشاكل غير مقبولة.

*المدن