أدهم حنا: أفلاطون حينما يقبل فناً سورياً

0

من الجيد أحياناً الاستماع إلى صنّاع الفيلم قبل مشاهدته، خصوصاً حينما يكون الفيلم وثائقياً، أو سرداً لحدثٍ ما، حالة إنسانية مخصصة، أو حتى في عالم الحيوان نستمع بجدية للشغف الذي يرافقُ علماء يراقبون سلوكاً حيوانياً أو نباتياً طبيعياً. هذا الخلق المتعب يعدو ليبدو قيمة لدى الصانع قبل أن يكون لنا. وهذا الشغف جدير بالمرء أن يستمع له. فيلم “دوما تحت الأرض”، بثلاث عشرة دقيقة وبتصوير وإخراج تيم السيوفي، يبدو حياة أكثر مما يبدو فيلماً. ارتأت مؤسسة “بدايات” إنتاج العمل بذكاء من كونه شكلاً من أشكال الحياة وإتاحة لمعنى إنساني وسوري يحمل غرابة لا نظير لها غالباً.

قبل مشاهدة الفيلم يوضح تيم السيوفي في مقابلة له عن اشتداد المعنى الذي يؤثر فيه. لا يظهر تيم في مقابلاته كفنان، بل كمصور وموثق لحياة شهدها وهرب منها ناجياً من دون أن ينجو. ارتيابه وحركاته في مقابلة فيديو شاهدناها له، لا تشير كثيراً إلى فرح الصانع أبداً. فهو ينزوي عن العمل باقتضاب، إحساساً منه بأن تصويره لمأساة لم يستطع أن يفعل لها شيئاً ليست براءة منها أو من نتائجها. ومن دون أن يشعر، يحاول دوماً في قوله أن يتخلص من عقدة الذنب في نجاته منها أيضاً. هذا يليق بكرامة السوريين، في تآخيهم بالحزن مثلاً، أو حتى شعورهم العام.

فأغلب ما أنُتج فنياً أو مسرحياً عن سوريا، حمل طابعاً شخصياً للفنان أو الكاتب أو الروائي. مشهدية سورية يبدو فيها الفنان جزءاً أصيلاً في العمل المقدم عن المأساة التي ظهرت في البلاد. وقلما يملك السوري الصانع تواضعاً عاماً، أو انكساراً نفسياً حقيقاً، أو انكسار الأهالي أو البلاد التي يكتب عنها. ورغم أن الفن ليس درساً في الأخلاق، إلا أن تيم السيوفي يحمل فيلمه كمأساة أخلاقية وفنية في آن معاً. بل حينما يتجرد عنها، يقول فيها قول الكاميرا التي هي وسيلته فقط لكي يتمكن العالم من أن يتذكر السوريين، أو يشاهدهم ببساطة تحت سنين من آلة القتل، ومن دون تزييف السياسة.

يحمل الفيلم قصصاً بشرية، أجساداً تظن أن صراعها مع البارود فيزيائي، فتلجأ للملاجئ، وحتى اللامبالاة التي يملكونها أمام العدسة مختلفة عما نظن أننا نعرفه أو نفهمه، عن بشرٍ هاربين من القتل نحو ملاجئ آمنة حسب ظنهم. بشر تحت سلطة الموت أو مظلته. لا يصور الفيلم الفظائع، بقدر ما يجعلها متخيلة على أجساد من ينتظرونها كحرب هم شركاء فيها فقط بموتهم أو بانتظار الموت وانتهاء الحصار واقتيادهم لجلسات تعذيب أدنى حقيقة من الموت، لتتصل بالعذاب والتنكيل. يبدو الاستسلام نظير المَشاهد كلها، تموضع الأجساد دوماً يبدو مريباً فلا يحمل سماتٍ طفولية ولا يرتقي للنضج أيضاً نضج. ينسحب الجسد باسترخاء صامت، أو استجابة هوسية لإنقاذ الموت من التمكن بمن يعيش في دوما. وأغلب وجوه السكان الذين مروا ينظرون إلى شاشة تلفاز كأنها أملهم الوحيد. النظرة إلى نشرة الأخبار مُهين جداً، في تموضع الجسد منذ زمن طويل لم تعد الصورة المرافقة للخبر السياسي مؤثرة أو تدعو للريبة أو الخوف. يوضح هذا سارتر في مجمل اعتراضه على التقنية الكاذبة للصحافة في استخدام الفظائع كصور. هم أنفسهم في الوثائقي يتجاوزن هذا رغم أن التلفاز خاصرة العالم الصغيرة التي يشاهدون منها العالم لكن من دون أمل سوى الاستماع لمأساتهم. كيف لك ان تشاهد خبراً عنك في التلفاز، وأنت تنتظر برميلاً في مكانٍ محاصر. المفاجأة التي يحققها الفيلم هي المأساة التي ألفها السوريون، بانتظار القاتل، وسذاجة الاختباء في الحروب الحديثة. كان الممتع في الفيلم أن جوائزه التي حصل عليها لم تعنِ المصور كثيراً. احتمال ما كان يريده في أن تتوقف الحرب أو ينحاز بشار الأسد عن الحكم، أو تتم معاقبته. لا يخفي المصور شجنه وقهره من ارتياد بشار الأسد لدوما، والتي أشعلها بالنار والبارود. يتأمل مأساته ومأساتنا حائلاً دون وضع جدار بينه وبين الضحايا. الصانع ينحاز لأبطاله بوصفهم أمواتاً وأقرباء ومواطنين ومظلومين. يتجرد عن معنى الصنع والحرفة، نحو جعل الكاميرا تحمل بشرية مضافة، لنشاهد حياة صادمة وغير متوقعة وهائلة.

هنا في هذا العالم الذي تستبيحه محاولة الفن والميديا الرأسمالية المتعوية، انشقت الصورة عن المعنى اليومي. هناك تاريخ حتى لتصوير الحروب والبحث في معناها لكنه تاريخي قديم حرب الفيتنام وحروب التحرير الصينية والحروب الأميركية. السينما والتوثيق اكتفى من مآسي العالم وتعميميها. بالكاد نشاهد ما يبدو أليماً. يمتلك العالم الحديث قدرة على تجنبينا التصديق أن هتلر قد يعود في أي لحظة. أو أن نعتبر الحرب هي فارق لغوي بهيمي، تختفي فيه لحظات البشر المظلومين، والمقتولين والمنتظرين للموت.

في الوثائقي ينحني كل شيء من البشر حتى الأبنية والأشياء. لا يبدو الفيلم سوى صور عليك تصديقها. لأن الفارق بين الصورة والحدث الآتي بعدها، هو الموت أو النجاة. في مرائي العالم الحديثة لا مكان لمثل هذه النظرية. البشر في العالم الحديث في أوروبا والعالم تُصنع لهم ميديا وسينما ودراما مختلقة، لتجارب إنسانية افتراضية. أما رؤية حقيقة المواجهة بين الموت والحياة لكل هذا الحد، فكانت صادمة، أو هبطت كالصاعقة عليهم. من هنا علقت عضوة لجنة تحكيم جائزة “منظمة العفو الدولية” على الفيلم بالقول: “في 12 دقيقة مؤلمة نشعر أننا انتقلنا إلى واقع بعيد جدًا من واقعنا، يذكرنا بمدى أهمية الاستمرار في التصوير، حتى عندما ينهار كل شيء من حولنا”. هذا الواقع الصادم للأنفس يبدو لنا مستهلكاً ومعتاداً، لكن بالنسبة للغربي الذي حاول عدم تصديقنا ليبدو أمراً مؤلماً وهائلاً.

يصور الفيلم مشهداً عبقرياً لقدرة البشر على الحياة وهم داخل حرب، الأهم هو استحقاق الفيلم لحيواتنا التي عشناها كسوريين تحت أشد أنواع الحروب قذارة. والفيلم بابتعاده عن السياسة كان حكيماً ومقبولأ، انتزاع فكرة المحاربين من الفيلم جعل النظام أمام حقيقته، كقاتل للمدنيين، وحارقاً طائفياً وعنصرياً بجدة. وإن كان أفلاطون حياً لسمح لنا بأن نقول عن الفيلم إنه الحقيقة المُطلقة، فالصانع يلتقط ما حوله فقط، والأبطال هم من عالم الحقيقة أيضاً، لا أحد يبذل أي سلوكٍ لكي يظهر الفيلم درامياً أو يكتب سيناريو لفعله بانتظار الصاروخ أو القذيفة أو المقتلة. ولا الطفل يُريد سوى أن ينتظر ذويه الذين قتلوا بصاروخ أو ببرميل. عالم الحقيقة السوري هو عالمٌ من المُثُل بالنسبة للحروب التي يشهدها العالم، نجاح الفيلم هو انتقاصه من الزيف، حقيقته التي لا شك فيها. ثم أن تواضع المخرج يجعله حكيماً وأفلاطونياً، فهو لم يعد يُريد شيئاً: “لقد صورت أهلي وعائلتي وأقاربي وجيراني”.. أهذا الفن خطيئة يا أفلاطون؟

(المدن)