أحمد عمر : موقعة عمّورية الثانية

0

تقول واقعة عمّورية التي سمّاها الشاعر أبو تمام فتح الفتوح، وهي من المعارك الفاصلة في التاريخ، وكانت في رمضان، مثل بدر الكبرى وحطين وغيرهما من الملاحم التاريخية، إنّ امرأة لطمها علجٌ من علوج الروم في عمّورية، فصرخت وامعتصماه، فقال لها العلج ساخراً: سيأتيك المعتصم على حصانٍ أبلق، وترجمتها باللهجة المصرية: “ابقي قابليني يا اد لعادي”، فحمل راكب صرختها إلى أذن المعتصم بالله، ولم يكن مثله في بني العباس في الشجاعة والإقدام، كما يقول سبط ابن الجوزي، وكان جالساً في مجلس أُنسه، وبيده كأس شراب “الجريب فروت”، فوضعه، وقال: والله لا شربتُه إلا بعد فكِّ هذه الشريفة من الأسر. حذّره المزارعون الذين يحبّون الأمن والاستقرار، وحصاد التين والعنب، من تنجيمات منجمّين رأوا مذنباً في السماء، فتطيّروا من الخسارة والهزيمة، فلم يبالِ بأقوالهم، وجيّش الجيوش وقادها بنفسه، ليُنقذها من الجيش البيزنطي، بقيادة توفيل بن ميخائيل، وقال أبو تمام في الموقعة قصيدته الخالدة التي حفظناها في المدارس. وقتها طلب منا المدرّس اختيار أجمل بيت، فوقع اختيارنا على هذا البيت، فاتّخذناه مسكناً: بيضُ الصَّفائحِ لا سودُ الصَّحائفِ/ في مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ.
وقد وقع شبيه تلك الواقعة، قبل أيام، لكن في “تويتر”، عندما استجارت امرأة عربية “أُسرت” في بلدها، بعد أن “أسرِ” أخوها، بسبب مقالٍ في صحيفة، بمعتصم كندا جوستين ترودر، فكتبت وزيرة خارجية كندا تغريدةً طار ذكرها في الآفاق، طالبت بها الحكومة السعودية بالإفراج عن المعتقلات والمعتقلين، ورعاية حقوق الإنسان، فجنّ جنون المملكة، وبدلاً من أن تراجع نفسها، وتعتذر لمهيضة الجناح، أو أن تفتح أبواب السجون أمام الصحافة والإعلام، حتى تبرهن أنها ترعى حقوق سجناء الرأي، وكان عليها أن تمنح جائزةً لمعتقلاتٍ سبّاقاتٍ لقيادة السيارة، مثل عزيزة اليوسف، ولجين الهذلول، وإيمان النفجان. وكان ابن سلمان قد جعل إجازة قيادة السيارة أهم إنجازاته الملكية الإصلاحية، بل إن المعتصم بحبل أميركا قطع العلاقات مع كندا، وطرد السفيرة الكندية، من أجل تغريدة، قال بمثلها كثيرون من زعماء الدول ناصحين، وعرف السبب لاحقاً، وهو أنّ السفيرة الكندية في السعودية كتبت تغريدتها بالعربية، تحثّ حكامها على الإفراج عن سمر بدوي، وجميع النشطاء السلميين، وكان من المرجوّ أن يكون هذا مبعث سعادة، لأنّ السفيرة “الرومية” كتبت بلغة العرب، ووفرت عناء الترجمة، لكنها ذكّرت بفتاوى هيئة العلماء التي تحذّر من نصح الملك إلا همساً. الإنكليزية إسرارٌ وحلال، والعربية إجهارٌ وحرام.
أوصلت رومية النداء إلى أذن المعتصم بالكرسي، فقطع العلاقات مع كندا، وبدأ علوجنا بث الأغاني الحماسية والحربية، ثم توجهت طائرةٌ على موقع الملحقية السعودية في كندا إلى برجٍ كندي، وتحتها عبارة تحذير وشماتة، قد تكون يوماً دليلاً جديداً لتطبيق قانون جاستا، تقول: “من تدخّل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه “. وراحت وسائل التواصل الاجتماعي ومنجنيقاتها تقصفنا بالطرائف، حتى فاق ظرف أهل الخليج ظرف أهل مصر، ودكّت أسوار عمّورية، تذكيراً بكل ما جرى لقطر من حصار، وأنذرت حكومة السعودية مبتعثيها، ويبلغون حوالي عشرة آلاف طالب أو يزيدون، وشرّدت بهم من خلفهم، ومنهم مرضى، أو على سفر، وعطلت العقود التجارية. إنها عمّورية جديدة، ولكن مقلوبة.
كوارث لا حصر لها تسبّب بها “فتح الفتوح” الجديدة. كبريات الصحف العالمية فتحت ملف حقوق الإنسان في السعودية، وخسائر اقتصادية بمليارات الدولارات، ومعها خسائر مالية وعلمية ونفسية، سيمنى بها طلاب مبتعثون، وآخرون على حسابهم الخاص. يشتكون في موقع السفارة، فيردّ عليهم سفراء الذباب الإلكتروني الذي اقتحم عمّورية: كرامة الوطن أهم من البعثة. ذكرنا أنّ أجمل بيتٍ اتفقنا عليه، كان بعد الترميم والإصلاحات الدستورية وتبديل الباب والنوافذ: خُشْبُ الصفائحِ لاَ بيضُ الصَّحائفِ/ في مُتُونِهنَّ جلاءُ الهمِّ والكرب.

المصدر : العربي الجديد

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here