أحمد عمر : قدّاس وجنّاز في الجامع الكبير

0

بّشرنا صاحب مطعم ” زمان الوصل”، الذي تناولنا عشاءنا عنده أمس، وشربنا ذلك المشروب الذي اسمه بولو “البعير” إلى أنَّ الدخول مجاني إلى الجامع الكبير، في البكور، والبكور في عدة الشهور عند العرب، يوافق الساعة التاسعة، فغدونا، لكن خبره لم يكن صحيحاً، لم يكن يعلم أن يوم “جمعة النصارى”، مستثنى من القاعدة، فدفعنا ستين يورو للدخول، عشرة لكل شخص.
دخلنا من باب واحد، وليس من أبواب متفرقة، فالأبواب الأخرى الستة مغلقة. كان أمراً جديداً علينا أن ندخل مسجداً جامعاً، هو واحد من أكبر ثلاثة مساجد في العالم، وأثرٌ من اثني عشر أثراً من آثار إسبانيا الخالدة، ببطاقة دخول، كما في السينما. فوجئت بأمور عدة، أولها إضاءة الجامع الذابلة، الكنائس تميل إلى الإضاءة الخافتة، في حين أنّ المساجد مفتوحة النوافذ عادة على القبة السماوية. ظننت عند دخولي أنّ موظفاً، وهو شرطي بالزيّ الرسمي مسلح عادة، سيرشدني إلى مقعدي حتى أتابع “الفيلم”. لاحظت أن الناس تقتحم حرمة الجامع بالنعال من غير حرج، وكان الشيف سامر قد حذرنا من الصلاة في المسجد. عندما دخلت، وجدت أن تحذيره كان نافلاً، فكيف يُصلى على البلاط العاري؟ يبدو أن كثيراً من المسلمين الزائرين، كانوا يخرّون سُجَّدًا وَبُكِيًّا، فمنعت الصلاة، أو أن الإسبان حظروا الصلاة خوفاً من انبعاث زمان الوصل. المثل يقول: من يلسع من الحليب يخاف من اللبن.

تفرق فرسان “اللبن” الستة، كل في جهة، وكأننا في عملية “أوشن 11 ” وهو فيلم شهير من أفلام السطو على البنوك. زهدت في الصور التذكارية، فلم أصور صورة واحدة. هل أتخذ صوراً بجانب شواهد الخسران المبين؟ مع أن الهواتف مزودة بكاميرات تصور بلا حساب ولا منّة، كما أني فوجئت بأن الجامع قد نُكّر تنكيراً مثل عرش بلقيس. كان الملك فرديناند الثالث بعد أن وضع جبنة الملكة إيزابيلا على رغيفه، وتوحدت المملكتان، فدحر جيشهما المسلمين، واستعادوا بلادهم، قد سلخ معظم جدران المسجد من الآيات القرآنية والزخارف الإسلامية، وطمس شواهدها التي توحّد الله. الأدلة السياحية تبشر الزائرين بدمج حضارتين، إسلامية ومسيحية، فكل آية قرآنية بجوارها لوحة لقديس، أو تماثيل لأنبياء وكهنة وملائكة عراة. مللتُ بسرعة. كان الإسبان قد بدؤوا يتجمعون لأداء الصلاة على مقاعد كنيسة “سيدة الانتقال” المنشأة في الوسط، كانت خطة صحبي، فرسان اللبن الستة أن يمكثوا في الجامع إلى العصر وقوفاً على الأطلال، خرجت، فوجدتهم جالسين في “صحن النارنج” وروضته، التي تتوسطها بحرة، وفي القبلة برج المئذنة العملاق، الذي حوله الإسبان إلى “أجرسية”، أشجار الكباد والنخيل مترادفة بالخط الكوفي في أرتال، تمتد بين أصول جذوعها سطور الماء.

لمحت على رؤوسهم الطير، قلت لهم: عمتم نصراً أيها المهزومون؟

تتالت الأخبار:

قال أبو ماكس الموسيقار: رفعت لي الشرطة البطاقة الصفراء.

قال أبو شهاب الأول: أنا رفعوا لي البطاقة الحمراء.

قلت: أنا أيضاً نلت بطاقة صفراء، اقترب مني شرطي، وأنا أحاول قراءة إحدى الآيات المكتوبة بالخط المغربي، ونبهني إلى ضرورة نزع القبعة عن رأسي، يبدو أن الكنائس تلزم المصلين بنزع نعال الرؤوس، كما تلزم المساجد خلع قبعات الأقدام، ونسيت، فوضعت القبعة على رأسي مرة ثانية، وكان ذلك يعني إنذاراً ثانياً.

قال أبو شهاب الأول: أنا أطلت المكوث في المحراب، وهو محراب يشبه بسعته مصليات الشام وزواياها، مهيب، فحذرني الشرطي، وطلب مني الخروج من منطقة الجزاء، كأنني متسلل.

قال أبو ماكس الموسيقار: تعبت فجلست، ويبدو أني خلعت نعلي من قدمي، تعرفون أن قدمي مكسورة، وهي تحكني باستمرار، فجاء الشرطي، ونبهني أن الصلاة الإسلامية ممنوعة. خاف أن أحرر الأندلس بالنعل.

قال نوري: قرفصت لتناول ساعتي التي سقطت، فظنوني أسجد، فأعلموني أنّ الصلاة ممنوعة. وأخبروني أنني يمكن أن أصلي في صحن المسجد، وسأفعل.

ظهر أن فريق أوشن 6 أخفق في زيارة الجامع الكبير. ضاعت الأندلس.

قصد نوري البحرة وشرع يتوضأ، وبقينا نتجادل، قال أبو ماكس الموسيقار ساخراً: علمانية إسبانية، أحلى علمانية رأيتها بحياتي.

قال أبو شهاب الأول: إنهم مذعورون من صلاة المسلمين، وكأن الكنيسة ستقع، وأن صقر قريش سيبعث من قبره إذا صلى مسلم في المسجد.

قلت: للإنصاف لا توجد علمانية مثالية، ولا نطمح سوى إلى علمانية أوربية مقبولة، لا يفنى فيها الغنم ولا يموت الذئب.

قال أبو ماكس: المسلم الوحيد الذي سمح له بالصلاة بعد سقوط الأندلس هو صدام حسين، زار المسجد مع ملك إسبانية، فطلب من مرافقه أن يؤذن، فأذّن، وقال صدام للملك مازحاً: سنستعيد الأندلس يوماً. ونويت التأكد من الخبر من الكاهن غوغل.

قال أبو شهاب الثاني: لنكن منصفين يا قوم، محمد الفاتح أيضاً حوّل كنيسة “الحكمة الإلهية”، أيا صوفيا، إلى جامع، نحن احتلينا عاصمة بيزنطة، وهم استردوا بغداد الثانية.

قلت: “أو بجيشكن” يا أبا شهاب، أجدادنا كانوا أكرم منهم، وأدلتي لو عرضتها لضاق بها الحصر، عُد إلى المنصفين أمثال ول ديورانت، وزيغريد هونكه، وأمين معلوف، الذي قال في كتابه “الهويات القاتلة”: “لو كان أجدادي مسلمين في بلد غزته الجيوش المسيحية بدلاً من كونهم مسيحين في بلد فتحته الجيوش المسلمة لا أظن أنهم كانوا استطاعوا الاستمرار في العيش لمدة أربعة عشر قرناً في مدنهم وقراهم محتفظين بعقيدتهم”. ويندب مسلمي إسبانيا وصقلية:” لقد أبيدوا، واستأصلوا، أو هجّروا أو عُمّدوا بالقوة”. لقد ارتكبت في إسبانيا عمليات صهر المسلمين بالنار، حتى لم يبق فيهم مسلم واحد يوحد ربه.

والمقارنة بين أيا صوفيا والجامع الكبير ظالمة، فمحمد الفاتح، بعد أن فتح عاصمتهم بيزنطة عنوةَ، اشترى كنيسة أيا صوفيا بمبالغ كبيرة من المال، وكان يستطيع أن يأخذها عن يدِ وهم صاغرون، ومنح الأمان لأهلها، وكذلك فعل صقر قريش الذي اشترى أيضاً أرض الجامع الكبير، وكانت كنيسة صغيرة فوسعها، ضاعف الأجر عشر مرات حتى قبلوا. الأمر الثاني أن محمد الفاتح وإن كان زيّن الكنيسة بالآيات القرآنية، فإنه لم يطمس لوحات الكنيسة، كما فعل فرديناد، الذي يقول التاريخ أنه ندم على طمسه الزخارف الإسلامية. اكتفى محمد الفاتح بتغطية اللوحات وسترها، وللعلم فإن تركيا الحديثة لم تجز الصلاة في الكنيسة، وحولته إلى متحف احتراماً لمشاعر المسيحيين، ولا تزال تمنعه. جمعت حركة شباب الاناضول 15 مليون توقيعا بمظاهرة اسمتها “هات سجادتك وتعال” لكي يصلوا في أيا صوفيا، لكن حكومة العدالة والتنمية لم تسمح لهم، الأمر الثالث أن المسلمين انقرضوا من إسبانيا مثل الديناصورات، كما تحاول الصين أن تقرض الأيغور الآن بأنياب الأيديولوجيا الرسمية. بينما تقول أراء حصيفة أن الآستانة سقطت بسبب كثرة الأقليات المدللة فيها وخيانة بعضها.

ختمت فقلت: كيف رأيتم الجامع؟

قال: أبو شهاب الأول: مثل قطعة بقلاوة حلوة، فيها برازخ مالحة.

قال الدكتور أبو إسماعيل: مثل امرأة ترتدي حجاباً من فوق الخصر، وتنورة ميني جيوب من تحت الخصر.

قال أبو شهاب الأول: مثل أن تزور جدك في الأسر فتكتشف أنهم قد حولوه إلى أنثى.

قال أمير الرحلة أبو المعارف: قسما برب العزة، حزنت أكثر من حزني على تدمير بيتي بالبرميل.

غيرت الحديث مبدياً إعجابي بتكوينات المسجد القوسية المرددة للأصوات فتحبسها: سقطت قبعتي على الأرض، فسمعت صداها يطن في آخر الجامع. المسجد ليس بحاجة إلى أبواق تكبر الأصوات.

قال أبو شهاب الأول: يجب أن ننتقم، أريد أن أدخل مثل المسيح وأهتف أخرجوا من بيت أبي.

قال أبو شهاب الثاني شيئاً لا أستطيع نقله، ممنوع من النشر.

أنشدت بيت أبي البقاء الرندي: حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ /

حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ.

قال أبو ماكس الموسيقار: عطشت، أشتهي كوباً من بول البعير.

أشار أبو ماكس إلى نوري، كان قد خلع نعله وجعل يصلي على العشب، ليس مثل أي صلاة صلّاها، وكان يصلي في إسطنبول عندما سكنّا فيها سوياً، خمس صلوات دفعة واحدة عند العودة من العمل، صلاته صلاة نقرة الغراب، تمارين سويدية روحية، لكن هذه المرة أطال الصلاة. سأل أبو ماكس: أي صلاة يصليها نوري؟

قلت: تحية المسجد.

قال أبو إسماعيل: ربما صلاة الضحى.

قال أبو شهاب الثاني: ربما صلاة النكاية.

عندما انتهى نوري، سلم التسليمة الأولى، فوجد جمعا غفيراً من السياح الأوربيين يلتقطون له صوراً تذكارية، وكأنه يقوم بنمرة سحرية في سيرك، وقد وقع له نفس ما وقع لعبد السلام العجيلي في إشبيلية.

قال أبو ماكس الموسيقار: يا أحفاد صقر قريش، احمدوا ربكم أنّ الجامع لايزال قائما، وإن كان نصفه قد نُكر، فالفرنجة دمجوا حتى الحجارة، وغيروا دينها، فلو كان في بغداد أو الشام لدمّر بأيدي الأمريكان، أو بأيدي أصحاب الفيل، وصار أثرا بعد عين.

كنا مهزومين، ومهانين، وجائعين، ومطرودين، خرجنا ومشينا في الشوارع الضيق، مسلسلين نرسف في سلاسل معدنية خفية، كأننا أسرى معركة، في رتل، تمرُّ بنا الحسناوات العاريات فلا نحفل بهن، في قلوبنا دموع جافة. قصدنا مطعم زمان الوصل، سننتقم من الطعام، مرت بنا عربات سياحية، قديمة الطرز، على أربع عجلات، لها مصابيح مثل السيارات، تجرها خيول نسيت صليل السيوف، وذكريات المعارك، تخبُّ بسنابكها الحزينة بين سطور التاريخ.

كانت رؤوسنا منكسة، كأننا فقدنا الأندلس للتو.

 

المصدر : المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here