أحمد عمر: سائق برتبة فريق

0

أمس رأينا خبر الباص الصيني غير الأخضر الذي انحرف بركابه من فوق جسر، غير جسر المسيّب لأن امرأة نسيت أن تنزل في محطتها، وطلبت من السائق أن يقف، فأبى ورفض، وبقي جالساً. ربما كان أبياً وأصله عربي، واسمه “ضينغ ضانغ ضونغ” ويغضب للحق غضبات مضريات.

السيدة هجمت على سائق الباص وضربته بحقيبتها، الأغلب على رأسه، وأظنُّ أن الحقيبة السوداء، وهي غير السلاح الأبيض، آلمت المضروب، الضرب على الرأس مؤلم، لأن حقائب النساء فيها عُدد صناعية مثل عدد الحدادين والخراطين من “مرايا”، و”بقع ضوء”، و”الشرطة في خدمة الشعب”، برنامج الهالوين الذي كان يقدمه اللواء الركن علاء الدين الأيوبي حتى يربّي الشعب فوق السطوح تربية عسكرية. غضب السائق وترك مقود السيارة، وقام لضرب المرأة رداً بالمثل. السائق الصيني من أصل عربي كما نتوهم، نسي أنّ الكريم على الجياد مبيتهم، ويكرم النساء، واللئيم لا يكرمهن، فأخذ الباص طريقه في البحر عجبا، وقضى ثلاثة عشر راكباً من أصل خمسة عشر، اثنان منهم مفقودان حتى الآن. ليس أمرّ من الموت سوى فَقْد رفات الميت. وكان الفهد في فلم “الفهد” لنبيل المالح المقتبس من فلم “حبيبة غرامينا” الإيطالي، المنتج عام 1969 للمخرج كارلو ليزاني يكرر شاكياً لضيوفه: ضربوني على راسي، ثم حمل البارودة ضد الدولة العثمانية. شعبنا الأبي ضُرب على رأسه نصف قرن ولم ينطق إلا بعد صيحة طفل في درعا.

يقول الصديق حسام: وقع لي مثل هذه الحادثة في دمشق قبل أكثر من 30 عاماً: أحد الركاب أراد إيقاف الباص في مكان غير رسمي على دوار باب مصلى، السائق رفض، الراكب هجم عليه وصار يهدده قائلاً إنه عنصر مخابرات. لسبب ما ( لعل السبب هو بصيص نخوة من أصله العربي) قررت أن أتصدى للرجل الأهوج فهجم عليّ. الركاب المحايدون وقفوا بيني وبينه، وهذا حياد إيجابي. أنا كان معي مظلة، فصرت أضربه بها من بعيد (وهذه مقاومة ومعها ممانعة هدية) وهو يهدد بإنزالي إلى فرع المخابرات، إلى أن وصل الباص إلى موقف، فأُنزل الشخص الغبيّ الأرعن. الصديق الذي روى لي الواقعة، لم يعد بعدها لزيارة وطنه من ألمانيا أبدا.

وقد رأى كل سوري مثل هذا الموقف، ورأيت أسوأ منه، والأسوأ هو أن يرغم مواطن مسلّح بمسدس على الخصر مثل الكاوبوي، الركاب الذين فيهم المرضى والعاجزين والشعب العنيد على النزول للاحتفال، مثلاً بشفاء حافظ الأسد، وعودته من الموت نصباً تذكارياً وسط الدمار، لقد قام، حقاً قام. يقولون: الرقص مقاومة. روى صديق لي أن عنصر مخابرات أجبر طائرة على تغيير مسارها إلى دمشق، مع أن محطتها كانت حلب، وهي قصد السبيل. لا نعرف حتى الآن أين ستهبط سوريا، في موسكو أم في طهران، أم في ميناء كازا بلانكا. لم يكن في الطائرة مقاومة ولا ممانعة ولا حياد إيجابي.

قرأت قصة واقعية، قابلة للتأويل للقاص إبراهيم صمويل، عنوانها “الناس الناس” في مجموعته الثانية: النحنحات، وفيها حكاية سائق يقود باصاً بطريقة مرعبة، فيخضُّ الركاب خضّاً، ليبدي المخض عن الزبد، وباص سوريا كان ذاهباً إلى الهاوية بسرعة قياسية، والجباية كانت بالأموال والأرواح والأوطان. يقول شرط الحرية: تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الأخرين، أما في سوريا فالشرط هو: تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الرئيس، سيبطئ الرئيس، سيقف الرئيس، سيسرع الرئيس على كيفه، ثم وجد الشعب نفسه في باصات خضراء، وهي أفضل من باص الرئيس السريع، إلى الموت.

قرأت أيضاً أن المرحوم حمدي قنديل نصح الرئيس بشار الأسد بالانفتاح على الشعب، وأن كثيراً مثله، من أعلام سوريا نصحوا الرئيس، الرئيس لا ينتصح، لو فعل، لسقط في البحر، فهو يعرف جرائم أبيه، شعب مثل الشعب السوري، إن رأى الشمس سيجن جنونه، ويقلب المواجع، وليس للرئيس إلا الاستمرار في القتل.

الرؤساء العرب يكرمون ضيوفهم الغرباء، ويرحبون بالغزاة والأعداء، ويقودون شعوبهم إلى مرافئ السلام بالباصات التي نعيش في بحبوحتها.

“نحن بتوع الأوتوبيس”، عنوان فلم ناقد، لحقبة جمال عبد الناصر المصرية. سيارة أبو الخيزران، المأخوذة عن قصة غسان كنفاني رجال تحت الشمس، قصة فلسطينية. سيارة اللحم السورية مشهودة وهي غير الباص الأخضر الصيني.

باص “أخطر” بكثير.

المصدر : المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here