قُضي الأمر وحُل َّحزب جميلات آخر الممالك الزائلة، بعد مرور ساعات على ربيع الجميلات القصير، واستوت السفينة على جودي الدماء. لا عسل في هذه القرى المختنقة بالغبار والأحلام إلا العسل الأسود المر المغشوش والكيان لا يسع مملكتين. وكانت مجموعة نسوة عددهن ثلاثون ألفا أو يزيدون، قد نجحن في تنظيم مسابقة لملكة الجمال في مدينة القامشلي، التي تشدد نخبتها “الواوية”، تذييلها بحرف الواو لا بحرف الياء الذي عُدَّ رجسا من عمل الشيطان، وكلاهما حرف علة، فالواو في ملتهم واعتقادهم أداة نسب كردي، والياء عربيٌة مبينة في اسم المدينة العثماني التركي. لم يأت ميرو حتى الآن، وكان شعب “سيرة الصبا ” للروائي والشاعر سليم بركات ينتظر ميرو، وميرو (تصحيف وتصغير أمير العربية) صورة طيفية نسختها أو مسختها الحكايات الكردية القديمة للمخلص المنتظر، الذي سيأتي بعد دمار، وهو يقود أكباشه التي ستشق كبد الأرض بقرونها وأظلافها، وقد جاءت الأكباش، ولم يأتِ ميرو.
أقامت هؤلاء الصبايا المسابقة، مشدودات أو مدفوعات بظلال أنصاب عشتار المنصوبة في ساحات الكيان الفاضل، من غير حاجة إلى مال دافع الضرائب، ولا زفرات الحالمين بحوريات الدنيا، وانتخبت ملكة الجمال ووصيفاتها، فهي بلقب رئيسة الجمال أولى، وهي انتخابات أكرم وأعدل من انتخاباتهم الديمقراطية المغشوشة، وتبادل المنكوبون بكابوس الدولة ووعدها الذي لم يروا منه سوى الوعيد، صور حسناوات شمس الأصيل، “والناي على الشط غنى والقدود بتميل”.
نقلت الأنباء خبر خطف السلطات منظمة الحفل الذي أوهن روح الأمة وهو دائما في حلقومها، وأضعف الشعور القومي الرهيف. وكان يمكن أن يكون لرأي القيادات الكردية الهابطة من الجبال بالسلاح وجاهة، لو كان حقاً وفعلاً يحافظ على أخلاق النضال والمرأة في هذه الفترة “الثورية والحرجة”، فمن المسلّم به، أن المجتمع تحوّل إلى ثكنة، والثاكنون مترددون في عرض بضاعتهم للحرب في درعا وإدلب، يقدمون خطوة ويؤخرون أخرى، وربما للحرب في اليمن بعد غد. وكانت الصفحات الثورية الكوردية (بواوٍ جديدة مرعبة مخبوزة في التنور) تتبادل صور جميلات السلاح من غير أثم أو حرج، لا بد من السلاح والزي العسكري المهيب في صورة الحورية الكردية. آلة القتل والبسالة تعيد صواب الجمال إلى رشده المفقود.
لم يطل الخطف لأكثر من ثلاث ساعات خرجت بعدها مؤسِسة عرش الملكةِ حرةً أو دون ذلك بقليل، من غير أن تُسَلّم بالأغلال إلى الأمن السوري كما حصل مع الكردي عبد الرحمن أبو، فلله الحمد والمنّة. ولو لم يكن خطفا لكانت دعيت إلى محاكمة، لكن ذلك لم يحصل.
كشفت المخطوفة، عن اسمها الحقيقي، وكانت تعيش متنكرة في غابات الواتساب الخضراء، واعتذرت على صفحتها عن مخالفة تشريعات الكيان الخديج وقوانينه، واستقالت من مجموعة الواتساب الضالة. المقارنة بين كلمة منظمة الحفل الوداعية، وكلمة القيادي في حركة المجتمع الديمقراطي المنددة بالحفل المارق المعتدي على أخلاق المجتمع الطاهر، تبيّن الفرق بين قطعة الجبن البيضاء الطيبة، وبين قطعة الطباشير الحجرية.
الغريب أنّ هذا الحدث السعيد كان سيشفع للكيان المولود من نطفة سوفيتية، قديمة في بنك الأيديولوجيات المحنطة، في الحاضنة الغربية، عند القابلةَ المولّدة، وعند الداعم العربي والمحلي، إلا أنّ طبع الجبل غلب على طبع السهل، والهوى أسوأ معبود، والهوى- كل الهوى- غلاّب.
بداية، يجب أن يحمد أمر محمود، وهو أنّ ملكات جمال شمس الأصيل – تعريب روجافا غير السياسي- نجون من مصير ملكات الجمال في العراق، فالمجتمع الكردي المخطوف يتجه هو الآخر إلى تعظيم ثقافة الفداء حتى الفناء. ويظنُّ كاتب هذه السطور أنّ أصل تقليد اختيار ملكة الجمال هو “نكاح القربان”، عندما كانت بعض المجتمعات القديمة تعبد الاله الذكر الفحل، الذي صاغه ذكورها في خيالهم على شاكلتهم، وتنتخب له أجمل العذراوات زوجةٌ في فراش النار حرقا أو فراش الماء غرقا، حتى تسكت غلمته. نهر النيل أو كينغ كونغ مثلا.
وقد علق ناشطون ساخطون على الحدث، بعد أن نددت قيادات شمس الأصيل التقدمية الماركسية اللينينية الحداثية الإمبريالية الحسينية بماراتون الحسناوات، فرأت أنّ مسابقات الحسن الجمال ليست من ثقافة مجتمعاتنا، ثقافة مجتمعاتنا هي عبادة ذكر وحيد فحل. والحق أنّ الكيان الكردي في شمس البكور (العيراق)، أكثر تأصيلا، ويوصف لدن الواوية بالرجعية، ومع ذلك لا يضيق بمسابقات الجمال ولا بغيرها. وتقيم حواضر تركيا مسابقات مثلها وأعظم، وتوصف مع ذلك بالإمبراطورية السلطانية الإخوانية!
تذكر موقع “قامشلو الحدث”، الواوي، بمناسبة نقض المسابقة وتعطيلها، واقع الصحة المتردي في ظل حكم كينغ كونغ الذي يحبُّ الجميلات الشهيدات، وحالة الشوارع البائسة، والتعليم المنكوب، وفوضى المرور، وسيارات شرطة الأسايش المتهورة من غير كوابح أو دستور، والرصاص الطائش القاتل، وضحاياه، وقارنها بعين الإدارة الذاتية التي ضاقت برؤية جميلات. لعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا / ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ.
وقد ضاقت أخلاق الرجال بمسابقة لا تختلف عن حفلات الأعراس التقليدية، إلا بأمر واحد، هو أنّ العريس غائب وليس ميتا، العريس هذه المرة هو الجمهور، وكان من العادة أن يكون الإله الذكر الغائب، فمن سيتزوج الملكة غدا أو بعد غد، قد يصير ملكا غير متوج وخطرا على فحولة الذكر الأوحد. بل إن الحفلة أدنى من عرس، لاقتصار الحضور على الإناث القوارير. وكان لحزب الجمال الذي يغفر كثيراً من الذنوب، فضائل اجتماعية، مثل جمع سلال الأغذية للمحتاجين ومواساة الثكالى، لكنه لم يسلم هذه المرة، مع أنه جمال بكر، ومن غير دنس. لقب الملكة لقب سياسي، وهذا خط أحمر.
تقول الدراسات والبحوث أن حكاية “ليلى والذئب” حكاية رموز جنسية واجتماعية، تحكي قصة بلوغ الأنثى سنّ الاستواء والقطاف، ولون القبعة الحمراء هو رمز بلوغ الأنثى، والذئب المفترس القاطف الخاطف، هو الذكر.
تقول تأويلات وقائع انتخاب ليلى ملكةً لجمال مدينة شمس الأصيل: البلوغ ممنوع على غير الشهيدات، والأحمر هو أحمر التضحية والفداء والموت لا أحمر الخصوبة والنماء، والذئب هو الحزب.
المصدر : المدن