قبل أن نتحدث عن العودة إلى حضن الوطن لا بد من الوقوف على الأطلال.. للنثر أطلال، لكن في سوريا وليس ببرقة ثهمد.
ألقت السيدة لاريسا محاضرة بالألمانية في حماية المستهلك، وذكّرت بأن ضحايا حرب الاستهلاك والبضائع والعقود من الألمان كثيرون، لكن أكثر الحاضرين كانوا من النازحين المساكين وأبناء السبيل وفي الرقاب. وقالت: إن الشركات تقوم بعمليات احتيال ذكية وقانونية، بإغراء المستهلك بعقود فيها طعوم ذكية، ما يلبث المستهلك أن يكتشف أنه تعرض إلى عملية نصب وسلب ونهب. وحذّرت بأن العقود تتجدد كل سنتين تلقائياً، وقد تتضاعف قيمتها، ومن ذلك أن الشركات تكتب المعلومات الدقيقة والخطرة الواجب ذكرها في العقد بخط صغير حتى لا ينتبه إليها المستهلك المسكين، وأن بعضها تكبر خط الإغراء الطعم في مصيدة الإعلان المغري. وقالت: إن شركات كثيرة نشأت للدفاع عن المستهلك في حروب الاستهلاك، وغنمت من هذه الحروب أسلابا، كل شيء هنا يمكن التأمين عليه.
وتطوّع نازحٌ لله دره، معجب بكيم كراديشيان، فذكر أنها أمنّت على مؤخرتها بمليون دولار، فضحكنا، وضحكت لاريسا، وأمطرت المحاضرة بوابل من السرور. وكان سفر الحوالي في كتاب “المسلمون والحضارة الغربية” الشجاع، قد ندّد بعرض أمير سعودي على كيم كراديشيان ليلة واحدة مقابل مليون دولار، ولم نعرف ما إذا كانت قد استجابت للعرض، أم أنها خافت على موضوع التأمين. وفهمت أن الأمير دعاها للنوم معه في الأرض المباركة، وأظن أنه لن ينام تلك الليلة، ليس ليسمع منها حكاية النوم السعيد.
وزّعتْ علينا لاريسا عنوان شركة تطوعية، تدافع عن المستهلكين المغفلين، بلا أجر، وتقوم بتقديم الخدمات للضحايا مجاناً، وذكّرت بضرورة التسريع بالشكوى، فالعقود غالباً يمكن التراجع عنها في غضون أسبوعين. ونبّهت المستهلكين من مغبة كشف عناوينهم؛ لأن كشف العنوان يعدّ موافقة على الشراء. وحذرتنا من الترحيب بمكالمات الشركات الهاتفية، فالترحيب أحياناً يعني الموافقة. وقال زميلنا صاحب طرفة مؤخرة كراديشيان: إن النازحين العرب لا يقولون “لا” أبداً. كانوا لا يقولون لا في غابر الزمان من الكرم، أما في عصور الرؤساء العظام، فلا ينطقونها من الخوف، وشتّان. ولولا الشهادة ما نطقوها، وكانت لاؤهم نعم. الحروب في أوروبا اقتصادية، أما في بلادنا الشمّاء فهي شاملة، سياسية واقتصادية وثقافية وعقائدية.
وكان “مان شافت” حزب سوري، وهو نازح مثلنا إلى بلاد الفرنجة، قد غرّد تغريدة تشبه تغريدات طائر الدرنغو، يهيب بالسوريين العودة إلى حضن الوطن بضمانة روسية، وغنّى الرجل المقيم في تويتر المنفى من أجل بناء الدولة عن بعد بالريموت كونترول، وبالتغريدات وليس بالحجارة، وقال للجماهير النازحة بالملايين: عودي ع ديارك عودي.. لكن لم يقل لنا أنه “مابو بالزرع شميل”، وإن الحاصودة حصدت كل شيء. وقال: “عن بعد”:
“من دخل دار بوتين فهو آمن”، لن تتعرض له المخابرات. وأضاف: إنه يضمن هذه الضمانات! ولم نعرف هل هو سكران أم منفصل عن الواقع بسبب سكرة وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت داء وبيلا. لم يذكر لنا أمثلة عن هذه الضمانات، ولا مثالاً واحداً، ولم يبدأ بنفسه، فهو لن يعود لوطنه ضاربا بنفسه المثل كما يليق بالقادة المعارضين، علما أن الجماهير النازحة هي مجرد رعية لا غير، ليسوا حتى معارضين، ولا علم لنا بمكاتب ضمان ووثائق تأمين روسية، ولا أمثله مضروبة عن عقوبات روسية على رجال أمن غدورا بالسوريين، والغدر طبع فيهم. لقد أهدر هذا القائد تغريدته وقوّضها ودمّرهاعندما قال: إنه لن يعود؛ لأن الشروط لا تنطبق عليه، فذّكرني مرة ثانية بالمثل البدوي الذي يقول:”عصفور كفل زرزور واثنينهم بالهواء طيارة”.. أحد أجمل التعليقات على تغريدة طائر الدرينغو: حبيبي أنت بناء الدولة قليل عليك، أنت لازم تشتغل بالمخابرات الجوية حصراً.
وكان عبد العزيز الخيّر قد عادمن الصين التي عشقت الهوى، واستخدمت حق الفيتو من أجل عيني الأسد إلى سوريا، فاعتقل وضاع أثره. الزميل المصري محمود حسين وعلا القرضاوي عادا إلى مصر، فاعتقلا، بل إن محمد محسوب كاد أن يعتقل في إيطاليا. كل الصيد في جوف الفرا.
لا يثق السوري بروسيا؛ التي فازت بالميداليات بالهرمونات في مونديال سوتشي، ولا بالرئيس بوتين الذي يفوز بالانتخابات، ويزورها كل دورة انتخابية، والمعارضون الروس يقتلون في بيوتهم، فكيف يثق بدولة دمرت سوريا وجاهرت بالقول بأنها ستحارب وصول السنة في سوريا إلى السلطة، ولا يثق بالأمم المتحدة أو بأمريكا أو بفرنسا؟ وحتى لو رحل الأسد، أو قتل، فإن أجهزة المخابرات تحتاج إلى التدمير بالبراميل. التغريدة العجيبة جاءت في وقت أعلن فيه النظام السوري قوائم السكتة القلبية، فكانت فألاً سيئاً. رواندا تخطت جرائم الإبادة العرقية بين التوتسي والهوتو بعد دستور جديد كتب في رواندا، وليس في الأمم المتحدة، ونشيد جديد، وحكومة منتخبة. السوري يحتاج إلى معجزة غير الدستور والنشيد للاستشفاء من الخوف والقهر.
العقد التجاري خطير، وقد يخسر فيه المستهلك بعض المال، أما العقد الاجتماعي، وهو اسم للعقد السياسي، فيخسر به المستهلك مصيره ومصير أولاده ودنياه كلها، وربما آخرته، وهو مضمون ومحروز بالدستور. الدستور القديم لم يطبق يوماً، ولا أعرف كيف سيطبق الجديد. لعل الدرينغو يكفله.
ذكرنا أن الغرب يتفوق علينا بالديمقراطية، وإن الديمقراطية تتيح للمستهلك الدفاع عن نفسه، وإن كانت الديمقراطية الغربية قد تعرضت إلى نكسات كبيرة بتولية هتلر ثم تولية ترامب، وإلى زلازل مثل المكارثية، لكنها تصحح نفسها، أما عقودنا الاجتماعية في كل الدول العربية فهي عقود لا نكول عنها، أبدية، وليس لها شركات تأمين، بل إن الدول الغربية تقوم بتأمين الطغاة، فنحن نعرف ما حصل في الربيع العربي لأننا فكرنا بتغيير العقود. الطاغية كان يؤّمن كل شيء للمستهلك الغربي بأرخص الأسعار، وأهمها سلعة الأدمغة والبشر والمواد الخام.
بعد انتهاء المحاضرة، دارت نقاشات على الموائد، تذكّيها الحلويات والقهوة. سألتنا المُحاضرة عن عقود نكبنا بها، فلم يخل نازح من عقود نصب واحتيال. سألت صديقي العراقي إن كان قد فهم المحاضرة. كان ينظر إلى السيدة المحاضرة بولهٍ، وقال: إنه لم يفهم شيئاً لأن السيدة حلوة وجميلة. كان هذه بشارة بأنه سيكون ضحية عقود جديدة. قال أحد النازحين: إن خسائر العقود مالية، قد تقل أو تكثر، أما نحن فقد نزعتنا من ديارنا عقود أُجبرنا على توقيعها مع السيد الرئيس، فخسرنا كل شيء، فكادت أن تبكي مواسية. كررت لنا محذرة: لا توقعوا قبل القراءة، الوثائق مهمة جداً.
شاهدت مقابلة أجراها الصديق فلاح الياس مع برلماني من البديل الألماني الشعبوي، زار مع وفد برلماني النظام السوري، واستقبل بحفاوة، وعاد إلى ألمانيا ليطمئن السوريين إلى أن المفتي ووزير المصالحة يضمنان عودة السوريين. وكان فلاح يحاصره بالأسئلة، لكن شيئاً مهماً غاب عن المشاهدين وعن العضو السيد نائب شمال الراين، الذي يظن أن المفتي يشبه بابا الفاتيكان، وأن وزير المصالحة مثل وزير الداخلية الألماني، بئس للظالمين بدلا.
نعود إلى طائر الدرينغو الذي يوصف بالطائر اللص، فهو يصيح ويغرد محذراً حيوان النمس من الجوارح، عندما يصيد فريسة، جرادة أو عظاءة، فيهرب النمس تاركاً الصيد للطائر النهّاب. صاحب التغريدة ليس درينغو، وليس عصفوراً، وإن كان يغرد في تويتر، والزرزور في حالتنا نسر جيف قمّام. ربما كان أولى أن نتذكر حكاية الثعلب، الذي كان يأخذ الحمير المتوعكة إلى الأسد المريض لمعالجتها، فيأكلها، حتى ينجو الثعلب بذيله الجميل.
أما دعوة صاحبنا النازحين للعودة، فليست رأياً فاسداً، وليست نكتة.. النكات مضحكة عادة، بعض الحقائق تصير نكتة بتقويض إحدى دعائم المنطق فيها.
تحدثنا قليلا عن أغلى مؤخرة في العالم، التي أحبَّ الأمير السعودي الذي يعاني من الأرق والسهاد أن ينام ليلة بجوارها. وعن ضمانات العصفور المهاجر، وحماية المستهلك الغربي، وأضمرنا الحديث عن رقبة كلفت شعبا وطنا وملايين الضحايا، لعلها أغلى رقبة في العالم.
المصدر : عربي 21