لوتْ “سراب” عنق التاريخ في بلدتنا، كما لوتْ الأفئدة، وكانت البداية جغرافيّة، عندما سكنت في الشطر العثماني من بلدتنا، فتحولت دارتها إلى ما يشبه شجرة في صحراء. يحجُّ إليها فتية الحي، ويقضون ليلهم أمام حيطان دارها كما قضوا النهار. ولم يكن الموظفون الوافدون يستأجرون سوى في الشطر الرومي المحدث الذي استوطنه السريان والأرمن في أوائل القرن العشرين.
وكانت: بَيضاءُ قَد لَبِسَ الأَديمُ أديم / الحُسنِ فهو لِجِلدِها جِلدُ. حتى إن أمها كانت فاتنة مثل بنتها، فنحتار أيهما نحب ونعشق. أمهاتنا يكبرن بسرعة، ينتقلن من طور الأنوثة والصبا إلى طور الأمومة والكهولة، أمام نيران التنانير وطشوت الغسيل ومواقد الحطب، ويرتدين ثياباً زاهية ومعقدة، مؤلفة من ثلاث وعشرين قطعة، كأنها شفرة دافنشي، وليست كأزياء أهل المدينة، وأزياء سراب الفرنجية. وكانت سراب غادة مثل الدمى في رسوم الكتب المدرسية، وعرائس الألعاب؛ أنيقة، أميرة، شعرها مضفور في نافورة تتدفق عذبة بالأناشيد على رأسها، أو يتهدل على كتفيها كالخمائل يعبث بها النسيم، أو يشدو إذا اضطربت، والتفتت تلفت القلب، وَكَأَنَّها وَسنى إِذا نَظَرَت / أَو مُدنَفٌ لَمّا يُفِق بَعدُ. وتحمل حقيبة على الظهر، من القماش، لم يكن لنا بها عهد.
وبزغ نجم أخيها هزوان، بشفاعة أخته، نتبارى في كسب ودِّه، وصولاً الى أخته، ونؤثره بألعابنا حتى تثني علينا سراب، ونهديه الهدايا حتى ترضى سراب. أو نقذف بالكرة إلى دارها حتى تعيدها لنا سراب، ونزأر أو نعوي في الشارع حتى تخرج رأسها من النافذة سراب. شعره لمّة، طويل يصل إلى كتفه. كان آباؤنا يحلقون شعورنا، بحصادة الشعر اليدوية، منعاً من القمل، كما كان الاستعمار يحلق أشجار الزيتون في فلسطين والجزائر، وكنا نفرح بلغة هزوان ولهجة سراب، والمفردات الجديدة الوافدة المغردة من بلاد بعيدة. الغريب حبيب.
علمتْ سراب من أخيها، بأنني بارع في الإنشاء، وكنت أسبقها بسنتين في المدرسة، فكنت أكتب لها ديباجات رحلة ربيعية متخيلة، ولم أكن قد قمت برحلة في حياتي، أو إنشاءات موضوع عيد الأم، فأكتب عن أمها لا عن أمي، أو عيد المعلم. كانت تلك هي مواضيع التعبير الدائمة في المدرسة، وفي سوريا كلها، المخفورة بالمناسبات والمغلولة بالأعياد وأصفاد العطل الرسمية.
وكنت أجتهد في كتابة مواضيعها، فأقود كلماتي كما يقود الإوز صيصانه، وألزمُ السطور كمن يمشي على حبل لا يحيد عنه، وأختار كلماتي بأدوات الجرّاح، وأرضعها مهجتي. قررتُ أن أبوح لها بحبي، فبدأت أدسّ بعضاً من عسل أشواقي بين خبز الكلمات والسطور، من غير أقواس، ولم يظهر لي مرة أن سراب قد انتبهت لتلميحاتي السريّة المضمرة في بطون الكلمات. آخذ قرطاسها، وأكاد أقول لها: إِن لَم يَكُن وَصلٌ لَدَيكِ لَنا / يَشفى الصَبابَةَ فَليَكُن وَعدُ.
طلبتْ سراب مني مرة طلباً شاقاً، لقد عرفتْ أنّ لدي جهاز تسجيل، فغصصت بريقي، فالراديو صديقي الوحيد، وأنا قلما أهتم بالمسجلة، الراديو سلوتي الوحيدة، وسلوة والدي الأعمى أيضاً، يسمع القرآن الكريم صباحاً، حتى صار يعرف المنشاوي والحصري ومحمد رفعت، ويعرف أصواتهم، ويسمع الأخبار من إذاعة لندن، ومونت كارلو، الراديو سمعه وبصره. اعترف لي والدي مرة أيضاً أنه يحب صوت هيام يونس ونجاة الجم. واعترف في مرة أخرى نادرة أيضاً، وكان ضنيناً بمشاعره، أنه يحب أغاني دياب مشهور، خاصة أغنية “عا الماية عا الماية” فيطرب لها، وتختلط الضحكة في حلقه بالدمعة. البيت موحش من غير راديو، وتمنيت لو استطعت أن أنشر الجهاز إلى قسمين أعطيها المسجلة وتترك لي الراديو. قررت أن أضحّي وأقرضتها المسجلة.
قالت إنها ستسمع دياب مشهور.
وأدعيت لأبي كذبا أني أسعفت الراديو الى دار الصيانة، وطالت مدة القرض يومين فثلاثة، وصارت الحياة موحشة في الدار، احترت في أمري، ولم أجد بداً من أن أدقّ باب دارها، بقلبي المضرّج بالخجل، وأطلب منها المسجلة، وشعرت أني لست مؤهلاً لخوض تجربة الحب الفدائية. فالعائد في العطية كالعائد في قيئه.
وكانت كسرت زر التشغيل في المسجلة، وهي تستعيد ” نمنم خانم قلبي نار”، وكدت أشكرها لأنها تركت أثراً لا يمحى.
هكذا استمرت الحياة سنة كاملة، نربض نحن الصبية على تلّة، متربصين بخروج الظبية سراب، فتخرج بأزيائها الحربية الاستعمارية التي لم نرَ مثلها، ونشهق من الرقة والوجد، ونتلمظ من بعيد مثل سباع جائعة، تدرك بغزيرتها أن الغزال طائر بأربعة أطراف، وأسرع من سباع الأرض كلها.
إلى أن كان عيد الجلاء. سأكتب موضوعاً عن الاستقلال والحرية، ومدّت إليّ بالدفتر: وَالمِعصمان فَما يُرى لَهُما / مِن نَعمَةٍ وَبَضاضَةٍ زَندُ. ارتجلتُ موضوع هزوان نافلةً، وتفرغتُ لجلاء الأشواق عن قلبي، فرض عين، وأفضل الجهاد أن يعقر جوادك ويراق دمك.
وجنّدت كتباً كثيرة أمامي أستعين بها على غايتي: “العبرات”، و”النظرات”، للمنفلوطي، “من وحي القلم” للرافعي، “بائع الحب صانع الحب” لإحسان عبد القدوس، “فتاة غسان” لجرجي زيدان، أشعار ابن زيدون، وتهتُ وأنا أريق دمي في غابات المعاني على جواد قطعت عراقيبه.
ونويت أن أبوح لها ببعض تباريح صدري المتّقدة، ففعلت، ومزجت بينها وبين الديار، وناجيتها مناجاة الهيمان، وتذكرت أنهار الوطن التي أعرفها، وقدتها من أعنّتها، وجعلتها كلها تصب في بحيرات الحب، وجعلت الجبال تأتي خاشعة مستكينة إلى حينا، وتذكرت عنترة وهو يقاتل من أجل ثغر عنترة المتبسم، والزير سالم وهو يجندل السباع ويركبها كما يركب الحمير، وأبا زيد الهلالي يقاتل حتى الموت، ودعوت أبطال الاستقلال، إبراهيم هنانو، وسلطان الأطرش، وفوزي القاوقجي، وحسن الخراط، إلى كوب من الشاي المطيب بالمسك تحت شجرة التوت.
كنت أعفُّ عن الإجهار والإعلان، وأحيد إلى الإيماء والإسرار، وأجتهد في التوريات، وصناعة المجازات والأقنعة، وظننت أني انتهيت، فقلت في نهاية منشأة الألفاظ، عبارةً بدت تطفيفاً في المكيال: عاشت حبيبتي، عاشت البلاد. وسلمتها القرطاس، فاستلمته وفؤادي يغني: عالماية عا الماية، يا بنية بالله اسقيني/ عطشان اسقيني ماية.
وفي يوم الاستقلال، جمعت وزارة التربية المدارس في ساحة السينما الشتوية، التي كانت تعرض فيلم: “حب بلا نهاية”، وحضر الآباء، وخطب المديرون والمعلمون وأسقطوا الاستعمار، وسحلوه، وتذكروا الشهداء، وهتفنا، ورفعت الرايات، وعلت الزغاريد، واستعرت المشاعل، وجاء دور سراب في الخطابة، الذي لم أكن بخبره عليما. أمها معلمة من الهيئة التدريسية.
خرجت ربة الحسن والدلال، قصيرة أكمام الزهر، وصعدت إلى منصة الأفئدة، وراحت تلقي كلمة التلاميذ والطلاب. وخرَّ قلبي بين قدمي، وأنا اسمع كلماتي من فمها بالبوق، كلمة كلمة، حرفاً حرفاً: لقد ارتقيتِ مرتقى صعباً يا رويعية “النغم”.
تمالكتُ، وكدت أغرق في العرق في ذلك اليوم البارد، وحبست أنفاسي، واختنقت، وأنا أتخيل الفضيحة، وهي تخلع عن عورة قلبي أوراقه، وتنفخ على أشواقي جمرة جمرة، وانطلقت الجماهير تصفق لكلماتي؛ وتحيي حبي لها وللبلاد. وأنا مذهول، وتحولت ثروات البلاد من ذهب أصفر أبيض وأسود إلى قلائد وأقراط، في أذنها وجيدها. وكلما قرأتْ كلمة، أوشك اللغم أن ينفجر بنا، وانتهت الكلمة، وصفق الجميع تصفيقاً طويلاً لقلبي الذي حرّره الشعب البطل نهراً نهراً من الاستعمار الغاشم.
وترجلتْ سراب، وصعد المدير، وأثنى على كلمتها وبلاغتها في التعبير، وحُسن مزجها الخاص بالعام، والصغير بالكبير، ومخاطبة البلاد والوطن كصديقة.
ولم أصدق أن تنزاح تلك الغمة بسهولة، وتنفستُ الصعداء. الصوت العالي والجموع الكبيرة يسهلان الخداع.
نجوت، وانفض الحشد، وتقهقرت الجحافل، حتى خلت الساحة إلا من الأوراق وبقايا الزينة والصدى، كأنما هي معركة وأشلاء، وبقيت وحدي في الساحة، أنا بطل المعركة وجنديها المجهول، والخاسر الوحيد، أداوي جروحاً غائرة، سعيداً بالنجاة ومدحوراً بالنصر.
لم تنتبه سراب للمياه تحت قش الكلمات، ولا المعلمين انتبهوا ولا الزملاء، وضاع حبي في الصخب والمهرجان، وبقيت محكوماً بالحرمان المؤبد مع الآمال الشاقة.
سافرت رويعية النغم بعد سنة، فكأنما هي سراب يحسبه الظمآن ماء، وفوق التراب تراب، وبعد السراب سراب، وعاد الاحتلال بعد سنوات وطنياً أشد وأنكى، وبكينا على أيام الاحتلال الأجنبي. ولم يبق من أثرها سوى أغاني دياب مشهور التي كانت تحبها ويحبها والدي، فكنت أبكي لسماعها كالنساء حباً، جبنتُ عن إعلانه كالرجال:
ضربني بخنجره الشامي
بصوابه ودكدكي عظامي
يا ويلي من جرحي وآلامي
طال الليل “ودموعي سيلانة”..
…
المصدر : المدن