أحمد عمر : التواضع الصوفي لآل الأسد

0

وهو يدعونا إلى عيد ميلاده، اشترط صديقنا فارس عدم شراء الهدية، وقال لنا: الهدية ممنوعة شرعاً، لا يأتيني أحدكم ويقول هذه هدية، إِلا جَاءَ بِهِا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُا عَلَى رَقَبَتِهِ. وقال إنه لن يستغني عن هدية عيد الميلاد، لكنها ستكون حكايةً تروى للمدعوين، وشرطه الثاني أن تكون الحكاية من عهد الدكتاتورية الميمون.
وعندما جاء دوري، حسب ترتيب أبجدية الأحرف اللاتينية، وهي أبجدية عربية، فترتيب الأحرف الإنكليزية هو “أبجد هوز”، رويت لهم واحدةً من قصص آل الأسد، المعروفين بالتواضع ونكران الذات والحلم و”العفو عند المجزرة”. تعرفون أن أجلى مظاهر تواضع حافظ الأسد أنه لم يكن يضع ساقاً على ساق، فما هو الفارياق؟ والسؤال مقتبسٌ من عنوان كتاب لأحمد فارس الشدياق، فقالوا: الفارياق هو أنه كان يفضل وضع القدمين على رقبة الشعب منعاً له من الانعتاق.
قلت: أيها السادة، وقاكم الله السوء، نحن نجهل تاريخ سورية المعاصر، بسبب الحواجز والسواتر الترابية، وأن حي الميدان في دمشق كان من أشرس الأحياء معارضةً ومشاكسة للحكام منذ عهد العثمانيين، وكان مستودعاً للحبوب والميرة، وقد خاف حافظ الأسد من الحي، فدمّر نصفه بالجرّافات. أما النصف الآخر، فسامه خسفاً بأمرين هما: اعتقال أبنائه، ورشوة وجهائه، وفي ذلكم بلاءٌ عظيم، فنظر إلى الحي ثم قدّر، فقتل كيف قدر، ثم عبس ثم بسر، فاختار آل حيدر، وهم من السنّة، لكنّ لهم نسباً إلى آل البيت، فأخذ أبا فهد حيدر، ومنحه مقعداً في مجلس القصر الذي سمّاه الشعب، فسكت أهل الحي المحاصر الذي لقي من أمره نصبا.
سال لعاب أحد أبناء الحي الطامحين إلى العلا، ويكنّى بأبي طالب، فطمع في مقعد إلى جوار أبي فهد، فبسط للأمر دينه ويقينه، فكلما حلّت مناسبة وطنية، نصب السرادق، ودعا فرقة العراضة الشعبية الشامية بالسيوف والتروس، وسالت الأقداح بالشاي والقهوة، والموائد بالحلويات، وطبع صورا للسيد الرئيس، وكتب تحتها: “هدية أهالي الميدان وعنهم أبو طالب”، حتى لانت قناة قادة الحزب، فشفعوا لـ “عنهم” عند “الجهات المختصّة”، فمنحوه أدنى المناصب في دولة التواضع الموقّرة، وهو منصب عضو مجلس بلدي، والمجلس فيه مهندس ووجيه وحاجب.
يروي صديقي الروائي والطبيب، بلال اللبابيدي، أيها السادة النازحون والناجون من البراميل، أنه كان أمام شعبة التجنيد، سعياً إلى تأجيل الخدمة العسكرية. وكان رئيس الشعبة منذر الأسد، المعروف مثل بقية آل الأسد بالتواضع ونكران الذات والزهد و”العفن عند المقذرة”، وكان في فورة الشباب، ويحمل على كتفه رتبةً لا يبلغها إلّا العِتاقُ النَّجيباتُ المَراسـِيلُ، ويحضر لتواضعه الشديد وزهده، بسيارة مرسيدس حديثة فاخرة مراسيل، ولم يكن أفخر منها في سورية وقتها، وكانت التقاليد والآداب السلطانية الاشتراكية تقضي أن يقدّم صاحب الحاجة حاجته إلى أحد الحاجبيْن، وهما عادة من جند الخدمة الإلزامية، فيدخل بها إلى السيد العميد، ليوقّعها أو يرفضها أو ينساها، ولم يكن يحضر، لتواضعه إلا في الساعة العاشرة صباحاً، لأنه كان يطيل في صلاة الضحى التي تجزى عن مائة صدقة. هنا ظهر البطل “عنهم” لحاجةٍ، فاقتحم الشعبة، ولم يفلح الحاجبان المسكينان في منعه، وقد هاباه من ثقته بنفسه، فظنّاه “منهم”.
وما هي إلا دقائق، حتى سمع المنتظرون صياحاً ولغطاً، بين “عنهم” و”منهم”، ثم رأوا ما لا يوعدون، كان العميد “منهم”، ينهال لكماً وضرباً على وجه أبي طالب، ويرفسه كيفما اتفق، حتى سقط مضرّجاً، فدحرجه بقدمه، ودفعه خارج الشعبة، فتغيّر شكل أبي طالب (شكري سرحان)، وصار يشبه أبا لهب (صلاح منصور) من شدّة الوطنية. الحكاية لا تزال عادية، غير العادي أنّ الحاجبين نالا ضرباً ولكماً أقسى وأنكى من الذي ناله أبو طالب، وهما مذهولان، ويخدمان العلم، وكرامتهما محفوظة حسب الدستور، ولا يدركان أن أحذيتهما العسكرية ستتحول، بعد عشرين سنة، إلى أنصاب تُعبد في سورية.
كان عرضاً عجيباً؛ الجمهور ينظر خائفاً، والحلبة ليس فيها حبال ولا حَكَم، والملاكم يلكم والضحية تُلكم، ثم ختمت هديتي، قائلاً: إن آل الأسد، لله درهم، متواضعون، وقد حظي الوريث الجمهوري بكفيلين، من أكثر أهل الأرض تواضعاً وخشوعاً: القيصر الروسي بوتين، والولي الفقيه خليفة الإمام المعصوم، ولا عاصم إلا الله.
نسيت أن أخبرهم أن أهالي حي الميدان كانوا يروون طرفة عن السيد “عنهم”، أنه سيدخل جهنم “عنهم” في الآخرة. أما ترنيمة عيد الميلاد فكانت جملة سورية هاجية من هتافات المظاهرات على لحن “هابي بيرث دي تو يو”، نترك للقارئ تخمينها؟

المصدر : العربي الجديد

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here