سأل الإعلامي محمود مراد، في قناة الجزيرة، ضيفه أحمد بن راشد بن سعيد مبتسماً، عن تفسيره بلوغ سيل الكذب في عواصم الظلم العربي الزبى محطّماً السدود، ومتلفاً الزرع والضرع والشرع. والابتسامة الساخرة انحياز إعلامي، لكنه معذور، إذ لم يجد عنها مصرِفا، وعرض عليه تقريراً لفضائياتٍ سعوديةٍ زعمت أن ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، هو شخصية مجلة التايم هذا العام (2018)، كأنهم لا يزالون يغارون من الضحية، ويضحِكون من في القبور، فقال ضيفه: إنّ الإعلام السعودي يحذو الإعلام المصري حذو النعل بالنعل والجزمة بالجزمة. وكانت مصر مع أختها الشام رائدتين دوماً في المنشط والمكره، علّمتا دول الخليج العمران، وهما تعلمانه فنون الشيطان، لكن ما بال مصر تكذب، ورئيسها يقسم في كل خطبة عدة مرات كذباً، وقد جعل الكذب من فنون الفروسية؟ وقصة الكفتة الشافية من كل الأمراض، وأم الدنيا الثكلى بأولادها، وترعة السويس، و”حتشوفوا العجب”، وبقية الأكاذيب التي يمكن عمل موسوعة لها، يكون عنوانها: الكذب بلا حدود، حتى تعزف الزبيبة على العود.
نذكّر بالبهتان الإعلامي والرسمي السوري الذي قال عنه ممدوح عدوان في كتابه “حيونة الإنسان”: إنّ الإعلام السوري يكذب حتى في أخبار النشرة الجوية، وكنا نحسب أنّ أخبار الطقس مقطوعة الصلة بالسياسة، وقيل في التبرير: إنّ الإعلام يكذب تشجيعاً على السياحة، والغاية تبرّر الرذيلة. ومن ذلك قول بشار الأسد لتلفزيون أوروبي سأله عن أمطار البراميل المتفجرة، ورياح السارين، فأنكر وقال متظارفاً: لا طناجر وبراميل. ومستشارته الحيزبون زعمت أن أطفال الغوطة المقتولين بغاز السارين إنما هم أطفال من الساحل، فوافقها المثل: “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”، الذي لجأت إليه تقيةً وهرباً من تهمة الطائفية، وخوفاً من توهين روح الأمة، وإضعاف الشعور القومي. بلغ طوفان الكذب أن طالبت فضائيات سورية الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالرفق بالمتظاهرين ومعاملتهم بالحسنى والسارين، لا بخراطيم الماء كما فعلت سورية الأسد، الذي يستحق رئيسها أن يقود العالم في باص أخضر. ورأينا تقريراً زاهياً عن مساجين سوريين يتعلمون فن الزخرفة والأرابيسك والفن التشكيلي في فراديس السجون السورية، و”تحت ظلال الزيزفون”.
تدرك الخاصّةُ أنّ الإعلام ليس محايداً، وأنه ساقُ كرسي السلطة الرابعة، ولسانها، وأذكر مثالاً للعبث المعتدل بالخبر، هو مثال خبر قائمة طويلة لإحدى جوائز الرواية، عمد فيه صاحب التقرير الإخباري إلى تصدير اسم أحد العشرة المبشرين بالجائزة، لإيهام الناس أنّ روايته هي الأولى، وأنّ الروايات التسع الفاضلة وصيفاتٌ لها، وهذا يمكن إدراجه في باب الحيلة القائلة: “أنا لا أكذب لكني أتجمل”، من كتاب “الحرباء بالألوان الخلابة”. وكان حسني مبارك يتصدّر، في صحيفة الأهرام، قادة الدول العظمى بحيل الفوتوشوب، وهو صاحب أول طلعة جوية من غير أن يغادر سريره. ولم يكن المواطن يظهر أمام كاميرات الفضائيات الأرضية والرسمية إلا ضاحكاً، حتى لو كان يحتضر، مثل ضحية مذيعة الزومبي، ميشلين عازار. لقد عمل الإعلام العربي الرسمي أكبر عملية تحويل جنس في عالم التجميل؛ بتحويل الرئيس القرد إلى غزال، والشعب الغزال إلى قرد.
ما الذي تغير في المشهد؟ وقعت ثورتان؛ ثورتا حرية ومعلومات، كشفت فيها الشعوب أنّه “أكثر من القرد ما مسخ الله”، وأنّ عملية التجميل والتحويل الجنسي من حيوان إلى إنسان فشلت، وحصرت الثورة الطاغية في زاوية حادة مثل السكين، فلا يستطيع التقهقر إلى الوراء، فاضطر “المسكين” الذي كان يقتل بالمفرّق في الظلام أن يقتل بالجملة في النور، وأن يداوي جرائمه القديمة بالإبادة الشاملة، وليس له إلا الكذب، وأنّه في المرحلة السابقة التي كان فيها الشعب صامتاً، كان يكذب بجرعات، وعندما نطق الشعب وحرّر لسانه، ردَّ عليه بطوفانٍ من الكذب، وصار ينافس إعلام دولة كوريا التي زعمت لشعبها أنّ فريقه الوطني نال كأس العالم، لكن الفرق بيننا وبين كوريا أنّ الأخيرة تكذب وشعبها في قمقم، ولعل السبب في كل هذا الدجل أنّ القائد الكذاب يقول: إذا كنت أتقرّب للغرب بدماء الشعب فريضةً، فلا بأس من الكذب كنوافل.
كانت هوامش في العهود السابقة تماثل نسب انتخاب الرئيس في مصر وسورية، افترستها أنياب المدّ الاستبدادي، ووجدنا أنفسنا في كوريا الرائدة.
“ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي” من كل هذا البغي.
المصدر : العربي الجديد