من لا يخطئ في الكتابة لا يخطئ في الحياة أبدًا، الاستسلام يخنق السرد ويرمي بك في غيبوبة الخضوع، كثيرٌ من الوقت قليلٌ من الزمن وأنت تُسحَب منقادًا نحو الأعماق بلا قاع، أو يدٍ إلهية.
هل الحياة معجزة؟ وهل هذا سؤالٌ يستحق مُحاجّةً أمام أزمة العابرين والعبور نحو أي يأس؟ قد يكون العجز ابن الهزيمة وزوجها الوفي في آن، فعلى الهزيمة أن تصبح أمًّا لكي تكون جديرةً باحتضاننا إلى هذا الحد، وعلى العجز أن يكون زوجًا مرتابًا يتقلب على دقائق القلق وهو يدرك أن الخيانة حدثت وتحدث وستبقى وإلا ما معنى كل هذا الخراب؟ خرابٌ في الداخل، خرابٌ في الخارج، خراب بين الداخل والخارج. ثم تنظر إليك من بعيد.. البعيد البعيد، حيث كنت تتطاول على حاضرٍ ممتلئٍ حتى الثمالة بالذهول وأسئلة الحرية الضائعة وترى إلى نفسك طائرًا ينقضُّ ببراثنه على جثة الأمل المتفسخة، ولديك من موهبة التأويل ما يجعل الكتابةَ حربًا حقيقيةً في وجه الحرب الحقيقية الأخرى، لكنك تدرك متأخرًا أن موهبة الكلام المكتوب لا تستطيع أن توقف المجزرة، وأنه لا توجد أي حقيقة خارج القوة المفرطة وأنك أنت وحدك.. وحدك الكلام.
الكتابة في حد ذاتها فعل حياة، تضع الشرط الإنساني منهجًا ثابتًا يحافظ على ديمومتها في الزمان، من خلال محاورة وتأمل دائم بين المشاعر والعقل، وبين الذات والموضوع، تدفعها حيويتها المرتبطة بالشرط الجغرافي إلى البحث عن واقع أفضل ومستقبل بلا خوف، كلما اصطدم هذا البحث بأدوات الاستبداد، أو الاحتلال زادت حدة الكتابة وخصوصيتها لكي تنجو من الشراك، والذات الكاتبة عمومًا لديها إنكار شديد في أن الكتابة قد تتحول إلى نوع من الانتحار، بحيث يبدو الخطر كشكل فيزيقي لا ينسجم مع حروف تم خطها أو طباعتها على ورقة بيضاء، هكذا يكون الخطر مباغتًا للكتابة طالما أنها لا تستمع إلى صوت الخوف، إذ تصبح الكتابة فعل انتحار كلما سَهَت عن كاتبها وارتقت بإنسانيتها، فيكون شرط الارتقاء الإنساني إلى أعلى المستويات هو تمامًا لحظة انتحارها كذات كاتبة.
تُلِحُّ عليك الضرورات النفسية بالكتابة كلما مضت أسابيع طوال وأنت عاجزٌ عن صياغة جملة واحدة، هنا تكمن مواجهة حقيقية مع الموت ولكن من نوع آخر، لم تكن لتتخيل أن الصياغة تحتاج إلى روحٍ وثابةٍ ومتصلة يستطيع المنفى الأوروبي الجديد أن يهدئ من اتقادها وهو يؤثث لمساحات شاسعة بينك وبينها، إذ كلما راوغتَ بحار الوقت التي تزبد أمامك محاولًا الهجوم إلى الأمام، ترى نفسك مرميًا في ثقبٍ أسود قيل أنه أسئلة الحاضر عطفًا على ماضٍ تتكدس صوره المحترقة في جحيم ذاكرتك، ويحدث أن تخرج من أناك المشوهة لتضرب نردًا مع ذلك الماضي القريب فتصاب بانتكاسةٍ في الأعصاب وأنت تسأل نفسك كطفلٍ بريء: هل حقًا حدث كل هذا، ويحدث؟! وهل المنفى زمنٌ آخر غير ذلك الزمن الذي يتربص بك كما تتربص بومة بفأر، تغلق الباب على الذكريات بغضب هاربًا من شرط المناورة الذي تجريه النفس مع نفسها لتقصي جدارتها في اكتشاف موهبة كتابة الألم وأنت محاطٌ بما يسمى مجازًا حياةً عادية لا توجد فيها احتمالاتٌ لموتٍ مفاجئٍ برصاصة، أو انشغالٍ يوميٍّ بتأمين لقمة العيش أو عجزٌ عن دفع الايجار الشهري الذي يذكرك دائمًا أنك لست صاحب المساحة الضيقة الخاصة بك. ثم يقفز هذا السؤال العربي بامتياز إلى الواجهة: كيف يصبح الأمن والأمان صخرة عثرة بوجه الكتابة؟ أعتقد أنني، وبعد مئة يوم من إقامتي في أوروبا، وتحديدًا في مدينة غوتنبرغ التي تروقني إلى حدٍ ما، بدأت أشعر أن الأمان المفرط وغير المعتاد يخدر انفعالاتي السابقة، وكلما تقدمتُ في الوقت بدا ذلك أكثر وضوحًا، وشعرت أنني أفتقد غضبي القديم، لكأن الغضب يقدم لك خزان وقود لا ينضب من الحدة في الكتابة القائمة على المشاعر الذاتية.
ـ كان صراخًا، إذًا، وليس فعل كتابة ذاك الذي كنت تحاول كتابته في الماضي القريب!
تسأل نفسك المهزومة أمام مساحات البياض اللامتناهية على برنامج الوورد، ثم تطبع كلامًا غير مفهوم علّه يودي إلى متنٍ أو مراوغةٍ ما فتصاب بالخيبة والحسرة على هذه الخيارات اللاعادلة بين واقعٍ حقيقي يدفعك إلى كتابة الصراخ، وواقعٍ مستأجر يمسد على رأسك المذعور لكي تهدأ، ويخيفك بعد هذا أنك لم تعد صالحًا لفعل أي شيء مهما بدا بسيطًا ويتكثف الرعب على شكلِ سؤالٍ عادي: ماذا سأفعل بما تبقى لي من حياة؟
لا الكتابة التي تنفجر في دول القمع والاستبداد والمعاناة اليومية، ولا تلك التي تهاجر إلى فضاءات الكون الأرحب لتتفجر في مناخات أكثر حرية، الكتابة ابنة نفسها..! وهي الطريقة العفوية لإظهار باطن النفس في تعاملها مع أدوات الواقع المتلاشي والمتغير إلى ما لا نهاية ضمن مبارزة شرعية تستقصي العدالة في أحقية أن يكون الكاتب كاتبًا، ثم تصير إلى أن تهدأ تلك المبارزة التي تجريها النفس مع الواقع الجديد الذي يحاول ترويضها، فإن هدَأَت، لجأت النفس إلى شرط المهارة والإبداع لإتمام واجبها الإبداعي، وإن لم تهدأ فللنفس المتوترة طرقها الطبيعية في إزاحة هذا التوتر، أو تطويعه في حال كانت محاطة بالمجهول اللحظيّ، ولا تعلل نفسها بضرورة التراكمات وإعادة “التشريج”، فالكتابة تتولد عن ذات كاتبها وهي تصغي إلى صوتها الخصوصي، أما أولئك الذين يملون عليها صفات الخزان الفارغ والخزان الممتلئ فهذا الوصف ينطبق على الكتابة البحثية وليس الإبداعية، وقد يرى راءٍ أن الإبداع يتولد من الإبداع وهذا صحيح، ولكن ليس التوقف عن الاستغراق في عمل إبداعي والاتجاه نحو إبداعات الآخرين من أجل شحذ الأفكار، هنا تخرج النسخ المشوهة و”المعلوكة” التي إن كانت نفس الكاتب حساسة اتجاهها فسوف تتردد عشرات المرات قبل أن تتابع عملها، وإن كانت نفسًا رخوة فستفوِّت عليها نقاء الفكرة وأصالتها وهي تحاول التشبث بقشة إبداع الآخرين.
ما استجر حديث الكتابة الآنف الذكر هو ذلك الفقدان الحميمي للشغف الذي ينتاب الكاتب كلما همَّ بصناعة قصيدة، أو حياكة مقال، أو تطويع السرد، جدران سميكة تقف بينك وبين عالمك الداخلي، تريد للبوح أن يخرج كاملًا، أو أقله أن يخرج روحًا متجانسة، فإن تمادى هذا الجدال بين نفور مما تكتب وبين انتظار الوقت الذي تعتقد أنه الأنسب من أجل الكتابة فقد يأخذك ذلك إلى استنزاف طاقات هائلة من التركيز العقيم على مستوى استرجاع الرغبة الأولى في الكتابة، لأنها هي المحرك الرئيس والوقود الأول للابداع. وهنا، يصبح شرط الكتابة هو شرط ذلك الاسترجاع للرغبة، فإن طغى اليأس، استحلتَ فريسةً سهلة للاستسلام منتظرًا معجزةٍ ما لتعيد إحياء ذلك الموات الذي يستفرد بتربة النفس ويتركها صريعة التساؤل الذي يهدد وجودك وكبرياءك كذات كاتبة، ويتوعدك بتعميق وحدة الروح واغترابها كضربٍ من ضروب المعصية:
ـ هل تسقط المهارة بسقوط الرغبة، أم أن سقوط الرغبة تكشَّف عنه غياب المهارة؟
هذا سؤالٌ أوجعُ منه جوابه، كأن تكتب نصًا عن الكتابة يدور في حلقاتٍ مفرغة وأنت تستجدي فرصةً أخرى لكي تنقذ روحك.
(ضفة ثالثة)