أحمد ظاهر: هذيان نهري

0

حينَ لفظني البحرُ على شاطىء جزيرةٍ من جزر الله الضائعة ، ألقيتُ رِحْلي وترحالي على تراب لم أكن بالغه من قبل…جزيرة مزدحمة بالنوارس والغربان والهاربين من النار، وهناك في الديار مازالوا يروضون الحرب بِهُدَنٍ تشبه مطباتٍ ترابيةٍ هشّة، تتلاشى تحت جنازير الآليات الثقيلة، التي ستمر فوقها، وقد تكدَّستْ فوقها جثث القتلى. كانت عفراء ابنة الشريف قد سبقتني إلى بلادِ الله الباردة، هاربةً من الفاتحين الجُدُدْ ، و موتي الذي أخبروها به قبل أشهر، فنحتت لي نصباً تذكارياً في قلبها وحفرت على النصب : /هنا يرقد نور الدين العاشق الذي ضاع قبره كما ضاعت البلاد/… وكغزالة تقف هناك على شاطىء بحيرة، تفرد أحلامها عند رمل غريب ، وحيدة إلا من أنوثة امرأةٍ أربعينية شرسة الحب ، وشغف قديم بالرمل الرصاصي المنتثر، في ذاكرتها، وحزنٍ حملته معها وجاءت لتعيشه هنا برهبنة الكاهنات في معابد الرافدين . هناك بعيداً عن ضجيج الحرب وذكور عائلة الشريف، تدوس بقدمين عاريتين على رملِ البحيرة وآثار أصابع قدميها تشبه وشوم غجرية على ساعد أسمر ، تترنم بشيء من نوحها الفراتي : /أسود عليهم ياقلبي /…. تحاول ان تُسْمِعُ نوحها المكبوت لبادية الشام المترامية خلف جبل بعيد يحاذي النهر، لتصبحَ تلك البقعة من الأرضِ ضفة جنوبية على تخوم البادية. عفراء غزالة من غزالات الشامية النافرة من وادي الخرّار، تقف على ضفة بحيرة في بلاد تتقن الجمال البارد، عيناها تبرقان بحلم مستحيل ،ويلحُّ عليها سؤال نبت في يقين الأمل : /ماذا لوكان حياً ؟ …/ /ماذا لو كنتُ في كابوس ثقيل لم أستيقظ منه بعد ؟/ …. تعاودها رغبة في تأويل الحلم الذي راودها منذ ليلتين، حين رأت نفسها وحيدةً على الضفة الشمالية للنهر، في رابعة النهار، وكان نور العاشق يقف وحيداً بشعره الرمادي الطويل، في دِغلِ حويجة مقابلة، لايفصلها عنه سوى فرع النهر، تحاصره ضباعٌ من كل الجهات، ولامهرب له منها وهي توشك ان تنقَضَّ عليه بأنيابها التي تهرسُ الحجر ، فجأةً نزل من السماء عقابٌ أسود و اختطفه من محنته تلك ثم حلّقَ به عاليا باتجاه الجبل الذي يفصل الشامية عن سهل الزور…

وتمضي عفراء في تأويل تفاصيل الحلم التي تستفز القلب. عفراء يابنة الماء ،لاشكَّ أنكِ تتساءلينَ الآن : كيف يستحيل الماء مغزلاً تنسجين به رداءً يحميكِ من مباغتة برد الحزن؟ ، ولطالما كُنتِ هناك في الجنوب البعيد الدافئ، امرأة تحلبُ الغيم ابتساماتٍ تتوارى خلف شفتين تمريتين تعيد لقلبي نشاط دورته الدموية، في المدينة التي كان عشّاقُها يتقنون الجنون والغناء فوق السور العباسي وتحت جسر المنصور العتيق. وكلما التقينا ، تجيئين وعلى رأسكِ كومةً من حطبِ العشقِ توقدينها حين يجمعنا المرسم الذي أطلقنا عليه اسم الصومعة. قلبكِ الآن ينضح بشوق النهارات الفراتية القائظة، كي تسكبي في فراغ القلب قليلاً من غزل الروح المتهالك على شفتيكِ المشققتين من شمسِ الانتظار، كأنهن ضفاف انحسر عنها الفرات في هجير تموز. وكنت أدندن وأنتِ ترسمين جانبي : /ياغزال البر يابو تريچية… يامعذب قلبي والله خطيه / الآن أنتِ وحدكِ ، تنقشين بمغزل الذاكرة سحر ذلك الصيف على أطراف الموج الـ يغازل صمت الحصى الملون، بنفثة عشق وقطرة ماء لا تكف عن الرقرقة.

كنتِ تهذين في حضرتي عن ذلك القيظ، يوم تزيَّنْتِ في هزيع الليل الأخير قبيل انبلاج السنا الضوئي وهو يباغتك نائمةً عند خاصرة العتمة، وأنت تستعدين للهروب من القيظ إلى رملِ الفرات البارد، بينما يشغل بالك أن كيف ستغسلين مطلع النهار كوجه طفل يتبرم من برودة الماء؟… والماء ليس شحيحاً ولابعيداً كي لايشتاقه جسدكِ المنحوت من طينه المشبع برائحة موعدِكِ الأول مع النهر ..تروين لي عن ساعةٍ تفتّحَ فيه الجسد القمحي في مدارات الماء، كنتِ الأنثى التي تغري ضحالة الماء لتكون اكثر قدرة على الغرق والإغراق… لم تسبقكِ امرأة بالتزاوج مع الماء الازلي، وهي تمنحهُ نهدين ككرتي لهب في كَفِّ (إنْكِي) اله الماء العذب، ليستدفأ بهما في عربدةِ وثنيٍ يعبد النار، ثم يجمحُ بسطوته لمزيدٍ من الشهوة، التي تتأرجح في جسده المائي المتلاطم، فينقضُّ موجهُ الشبق على أنثى تغويه وترشده لمخابئ اللذة الخارجة عن القانون، بشهوات الليل السرية وهي تنتأ لتوها من الجسد الطفولي المراهق، يتوغل الموج مكتسحاً حقول العشب النديِّ كعشب نيسان ، ينتفض الجسدُ انتفاض مهرة شموس ، خارجة من النهر ، وتهرعينَ للرمل ، وفستان ( الكودلي) يفضح الجسد الطفولي وهو يعبر إلى غوايات التكوير، فيلتصق بجغرافيا جديدة ومرتفعات جديدة برزت من السهل الذي كان. لا تكفِّين عن الوثب على الرمال، بساقين مزينتين بشنوف الفضة، وهما يرنّان في بيداء الحياة …

أيتها الأنثى التي تنجب الأمل، وتحبل بالطموح : – أصبحتِ الآن ملء العين.. – عيني عليكِ باردة.. قلتها لك يوماً وأنت تسردين لي قصتك الجنونية مع النهر …وأستطرد مقاطعاً هذيانكِ : – متمردة انت يابنة الشريف لاترمشين لإيماءاتِ اليأس. هكذا خُلقتِ خليلةً للنهرِ الذي لا ينضب، امرأة يختبئُ تحت رمشيها وطن، وماء يغتسل بأنوثتها … انتظريني ليطير بي العقاب الأسود مجدداً، إلى حيث أنتِ… فأنا لم أمت بعد..

*خاص بالموقع