أحمد ظاهر: عشقٌ و زجاجٌ أخضر

0

لاسبيلَ ولاحيلة لتعطيل هذه الألغام  المنتشرة في حقول الذاكرة، ألغامٌ ضاعت خرائطها على مدى ست وخمسين من السنين  ، وقد تنفجر في  أيةِ لحظة، حين تدوس عليها جملةٌ شِعرية من كلماتٍ   لأغنية  تهشِّم القلب.

وليس وحدها  الأغاني من تقوم بهذا الفعل التفجيري، بل إنَّ أشياءَ تافهة يمكن أن تفعل هذا الفعل، كقارورة عطر  زجاجية خضراء  أوشك أن القيها في سلة المهملات، بعد أن فرغت من عطرها ، ثم أتراجع  واعيدها إلى مكانها على الرف، بعد ان فَتَحتْ هي الاخرى كُوَّة ًفي ذاكرتي  لتأخذني الى  زمن ولّى ولن يعود،

ذلك الزمن الذي  بدأت  فيه شهوات غامضة تداهم جسد الفتى المراهق.

كنتُ أحدِّقُ في زجاجة خضراء ، منعني من رميها سعد الحلي  بصوته الذي يجمع بين متناقضين، خشونة وحنية..

/اريدك بالحلم خطَّار مر بيه عشگ اخضر

واتيهن نجمه بسنينك أدور طيفك الما مر/.

هنا لا يستلزم الأمر اكثر من هذه اللازمة، وقارورة  العطر ، كي تهرول الذاكرة للبعيد،بعد أن قطعت  عقالها كمهر جامح.

 أراني بسنيني العشرة وفي صيف بعيد جداً  وقد رأيت والدتي تهم بالخروج من البيت وكعادتي اسألها :

– وين رايحة يوم؟

– عالمفخرة  أجيب قطرميزة ، والمفخرة مصنع للأواني المنزلية، الزجاجة منها  والفخارية الضرورية في تلك الأيام ، كدنان الماء والبس، وعبوات الزجاج /القطرميز/ بمختلف  احجامها، تلك العبوات لم تكن لتعمر طويلا وغالباً مصيرها الكسر  مما يقتضي شراء عبوات جديدة في كل موسم.

تصمت والدتي لأنها تعرف أنني أريد مرافقتها

-أريد اروح معاچ….

– دومك  مرفج… هرواح…

يشدُّني الذهاب لمصنع الزجاج والفخّار، بي فضول الاقتراب من مدخنته العالية التي كنا نراها وهي تنفث الدخان الأسود كأنها تنين يمد عنقه نحو السماء ، قبل أن تحجب الأبنية العالية عن عيوننا الجانب الشرقي من السماء، وتلك المدخنة العالية التي تحتلُ جزءاً من ذلك الفراغ السماوي ..

متشبثٌ بطرف صاية الشيفون النيلي  التي ترتديها امي والصاية بالنسبة لي ولأترابي  دفة توجيه تقينا الضياع ، نتجه إلى مقصدنا خَلْفَ الضلع الشرقي للسور العباسي، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها حوش المفخرة، والمدخنة العالية التي تشبه مإذنة ،  كان مدخل الفرن الذي تُشوى فيه الفخاريات  أسودا محمحماً بالسخام، هنا تسجر النيران التي تحول الطين إلى دنان وجرار، وحوش المفخرة مكتظ بعبوات الزجاج المعدة للشحن والبيع وعلى  الحائط الغربي تتكأ دنان الماء الجاهزة… وغير بعيد عنها فرن الزجاج

كنت هناك يوماً وفي خلفية هذا المشهد /الفلاش باك/ كورس سعد الحلي  وهو يكرر لازمة… مر بيه عشگ أخضر……

عدنا للبيت وفي حضن والدتي قطرميز كبير  بلون فيروزي باهت ،  وهذا اللون  غير النقي ناتج عن رداءة  في صناعة  الزجاج، قطرميز مخنصر من وسطه يشبه جسد انثوي وكتلة ثقيلة من الزجاج تشكل قاعدة العبوة.. تصمد امي تلك القطرميز تحت المنضدة الخشبية  وهي مكتنزة بالخيار والفليفلة الخضراء.. ويوما ما سيحين أجلها وتُكسر، ثم تُلقى تلك الأشلاء في تنكة القمامة.

خطر لي يومها وانا امسك بكتلة ثخينة من قاعدة القطرميز المهشم والذي يختلف لونه الداخلي عن لون سطحه الباهت  ، ففي داخل هذه الكتلة لون أخضر غامق مليء بفقاعات  الهواء المحبوسة في عالم ضوئي تعكسه أشعة الشمس المنكسرة في الفقاعات الهوائية، فتحيل ذلك الهشيم الاخضر إلى جنات وانهار بمخيلة طفل ، هكذا خيل لي وانا أقرب حافة الكتلة الخضراء من عيني، اوجهها  للشمس تارة  وتارة للظل فتختلف الصور ويعمل الخيال الخصب عمله في رسم عالم أخضر، تعدو فيه الخيل وتتدلى منه نجوم  مشعة خضراء، تتدفق في أرجائه شلالات الضوء، اذكر أنني  ومنذ تلك اللحظة ادمنت النظر في كتلة الزجاج التي تتغير فيها العوالم الخضراء كما أرغب .. واستمر  ذلك حتى دخولي سن المراهقة الذي أجبرني على التخلي عن بعض تلك الألعاب الطفولية، فشاربي قد خط كظل باهت.، وصوتي بدأ يخشن  وصرت من عداد الزلم كما تقول أمي حيث لايليق برجل  البقاء طفلاً ، كانت لعبتي المفضلة التي ارخت بها  معرفتي بامتلاكي لخيال الرسام.

تلك الأيام لم تسعفني معارفي بتاريخ المدينة لأعرف ان تلك المفخرة  لم تكن بعيدة كثيراً عن أفران الفخار والخزف الرقي الذي كان يُصنعُ في مملكة توتول القريبة أو الرقة التاريخية ، توتول الميناء الاشهر على شاطئ الفرات في العصر الأوروكي والذي كان يجبي الضرائب من السفن القادمة من مملكة كركميش و المتجهة  بأحمالها إلى بابل.

من توتول كانت السفن تبحر إلى الشرق  لتصدر الخزف الفاخر  إلى ماري وبابل وممالك الشرق ، ومن يزر المتحف البريطاني ومتحف (المتروبوليتان) بأمريكا ، ومتحف “اللوفر”، في “باريس”، سيرى هناك قاعات خاصة بعرض الزجاج والخزف الرقّي ، هذا إلى جانب ما هو معروض في متاحف “دمشق” و”حلب” و”الرقة” قبل أن يسرق متحفها.

صحيح  أنَّ الزجاجة التي حررت أمهار خيالي من قيودها من الزجاج الرديء الذي لايشبه زجاج توتول، إلَّا أنها كانت أثمن واغلى عندي  ليس لأنها لعبتي الخيالية المفضلة فحسب، بل لسبب آخر لايقل  أهمية من السبب الأول.

 وما يزال سعد الحلّي يفجر الغاماً أخرى في حقول الذاكرة  وهو يغني عن عشقه الأخضر….

كنت اجلس في عصرية ذلك الصيف في ناصية الحارة معتزلاً اقراني  المشغولين بكرة القدم، وشعري الفاحم الأسود الطويل والمجعد ينسدل على نصف وجهي، وانا مستغرق في خلق عالم أخضر في قطعة الزجاج، لم أشعر أن عينان تراقباني من فتحة باب حديدي احمر موارب،  كانت  أخر ايامي مع لعبة الزجاج الأخضر وعالمه الذي صنعته فأنا  أوشك ان أودْعُ الصيف الرابع عشر من عمري، لم انتبه الا على صرير الباب الحديدي الأحمر وهو ينفرج نصف انفراجة، ووجه  أسمر  محمص كرغيف تنور  خلفه، ترمقني صاحبته بعينين صاخبتين وابتسامة هادرة، كانت تكبرني بسنتين، ضاع اسمها الحقيقي منذ سنواتها الأولى حين كانوا يدللونها باسم السمرا.

سمرا الصفة التي  طابقت الموصوف، كانت المرة الأولى التي اقتنعت فيها أنني  لم أعد الطفل الذي كان ، فقد سرت قشعريرة كامنة في اوصالي وكأن عينا سمرا تزُفُّ لاوصالي تياراً كهربياً فتح نوافذ مغلقة في قلبٍ لايفرق بين نبضة عشق وبين نبضة تستمر بها الحياة ، ابتسمت لها… ثم لمحتها تومئ بيدها  وهي تغلق الباب، كان إعلاناً غير معقد لحب أول.

عدت للبيت  وانشغلت بكتلة الزجاج الأخضر التي أصبحت مثل كرة الساحرة التي تكشف بها المصائر القادمة و المخبوءة ،  كنت أصرف وقتي داخل الزجاج الأخضر،  رأيتني وانا أعبر الدرب الضيق  أمام بيت سمرا ، كانت وراء الباب ، وفي ظهيرة في قيض لاهب أشارت لي أن اقترب،  تَلفَّتُ حولي أتفحص الدرب من مفاجأة تفسدُ اللقاء الأول،  الشارع يخلو من ساكنيه وعابريه ،  جذبتني خلف الباب وأغلقت،  حضنتني وقالت : أحبك… شعركَ.. كم شعرك جميل  ، وضاعت باقي كلماتها في لهاث ذئبة أطبقت على عنق حمل ، لم اتفوه باي حرف كنتُ مستسلماً كطفل رضيع يوشك على النوم، وأمام عيني يمامتان  تشاغبان تحت ثوب الكودري الأحمرالرقيق، تفصلهما قناة أزلية الإغواء، وبشغفٍ خجولٍ تحاولان التحليق إلى حقل عشبٍ ندي  بالكاد بدا ينبت على صدر  مجنونٍ مراهق ، تكتظُّ روحه برغبات جديدة مخبوءة عصية على التفسير، ولايفصله عنهما  سوى عروةٍ واحدة… تعصرني سمرا  كأنها تريد أن نشكل كوناً واحداً،… ولمّا  يصمت الحلي وجوقته  بعد، ولم ينه اغنيته التي تنكث في الذاكرة :

    / العمر من غير حب شيفيد.. دي لمني بعصرة چفوفك/.

حدث أو لم يحدث ، حلماً كان أم  حقيقة ،  اعلم ان تلكم اللحظات تكررت ، ليلاً، وفوق السطوح المتلاصقة، تحت الجسر العتيق في موسم غسيل الصوف ،  ولأكثر من سنة  ظل الزجاج الأخضر يصنع تلك الأحلام، كان حلماً  نتأ براسه فلاكته الألسن التي تغزل مغازلها في قصص لم تحدث بين سمرا الشرسة والمتمردة كمهر تتري شموس  والمراهق  صاحب الشعر الأسود الطويل.

يومها توقفت الزجاجة  عن رسم  تلك الأحلام الصغيرة، و يومها فقط  كسرتها  بينما الحارة مزدحمة بالسيارات  التي جاءت لأخذ سمرا  بثوب العرس الأبيض   إلى حارة أخرى.

وخزني سعد  وهو يصل لنهاية الكوبليه الأول :

/اجيتك والعتب بالعين عتب عاشك بحنيه../.

ومشينا مسافة أربعين عاماً…. و زجاجة العطر الفارغة تحدق بي ، أمسكت بها مرة أخرى  قرَّبتها من عيني ، كانت توتول مقبرة شاسعة ، وقد ارتحل عنها الفرات بعد أن لملم ضفتيه ونأى جنوباً  تاركاً جهاتها الثلاث التي كان يحيط بها، مخلِّفاً خلفه مسافات هجر  لقبور جديدة  بدأت بالازدحام بعد قصف المدينة   ، المدخنة التي تشبه التنين اختفت مع عدنان الفخار والزجاج الرديء الذي يصنع الأحلام الخضراء و  تلال توتول  مزركشة بالقبور.

قالوا أنَّ سمرا ترقد الآن في  تلال توتول  بعد قصف منزلها منذ سنتين … وصوت خشن حنون   يرخي السكون بعد أن هدا الانفجار في ذاكرتي  :

/أجيت انگل عتب بالعين.. عتب عاشگ بحنّيه/.

 وأنا هنا  في البلاد التي تعشق الثلج ازيح خصلة الشعر  الأبيض الطويلة التي استرخت على  عيني … أُرمي زجاجة خضراء فارغة من عطرها في حاوية   مخصصة لرمي الزجاج.