تتفق معظم المعاجم على أن كلمة “مقال- مقالة” مـأخوذة من القول، ومعناه القول أو الكلام أو ما يتلفظ به اللسان. وورد في معجم لسان العرب لابن منظور: “قال يقول قولاً وقيلاً وقولة ومقـالاً ومقالة” فالمعنى اللفظي العام للمقالة هو الشيء الذي يقال. وفي قوله عزّ وجل: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله}.
كمـا وردت كلمة المقالة أو المقال في أشعار العرب، ومن ذلك قول حسـان بـن ثابت: “ما إن مدحت محمداً بمقالتي.. لكن مدحت مقالتي بمحمد”، وقول الحطيئة مخاطباً عمر بن الخطاب: “تحنّن عليّ هداك المليك.. فإن لكل مقام مقال”.
واصطلاحاً، يعدّ المقال/ المقالة نصّاً نثرياً محدود الحجم، يعالج موضوعاً واحـداً ويتناول جوانبه العامة بأسلوب بسيط وميسّر. وموضوع المقـال يشمل أي شيء في الوجود يودّ الكاتب أن يعبّر عنه، سواء كان علمياً أو ثقافياً أو سياسياً أو عاطفياً، وهلم جرّاً. ولا يليق بمعلومات المقال أن تكون محشوّة ومعقّدة، كما ليس الهدف منها التعليم ونقل المعارف بقدر ما تكون مشوّقة ومثيرة، وهنا تلعب مهنية وثقافة الكاتب دورها الرئيس في تحديد جودة المقال.
المقالة في الأدب العربي المبكّر
ذهب فريق من الأدباء والنقّاد إلى القول بأن أسلوب المقالة قديم النشأة وله جذوره التاريخية في الأدب العربي المدوّن خلال العصور الوسطى، وظهرت المؤشرات الأولى للمقالة عند العرب في عدد مـن الأعمال والمؤلفات الأدبية بالرغم من أنها اتخذت مدلولات وأسماء شتى غير “المقالة”، كالرسائل والخواطر والنصائح وغيرها من أسماء.
ولعل “رسائل عبد الحميد الكاتب” في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، إلى ولي العهد “عبد الله بن مروان” نجل آخر خلفاء بني أمية “مروان بن محمد”، كانت أولى العلامات الدالة على احتلال فن المقالة مكاناً له في أدب العرب.
ازدهار فن المقالة في العصر العباسي
وشهد العصر العباسي نهضة واسعة لفنّ كتابة المقالة، وتمثل ذلك الفنّ في “رسالة الصحابة” للكاتب والمترجم “ابـن المقفع” صاحب كتاب (كليلة ودمنة) الشهير. وشكّلت مؤلّفات الكاتب الموسوعي الغزير “الجاحظ” قفزة كبرى في مضامين المقالة وأشكالها، إذ برزت المقالة النقدية والاجتماعية والفكرية من خلال كُتب “البخلاء” و”الحيوان” و”البيان والتبيين” و”رسالة التربيع والتدوير” وكتبه ورسائله الأخـرى التي تناولت موضوعات شتى، في علم الكلام والأدب والفلسفة والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء وغير ذلك.
وتميزت موضوعات الجاحظ بأسلوب أنيق ومسترسل في ذات الوقت، فخلق بذلك فناً جديداً من الكتابة لم يُسبَق إليه، وتفرد بخصائص ومميزات جعلته يتربع فوق قمة فن المقالة.
إضافة إلى ذلك، ظهرت المقالة عند “أبي حيان التوحيدي” في كتابيه “الامتـاع والمؤانسة” و”المقابسات”. وعند ابن الجوزي في كتابه “صيد الخاطر” الذي ضَمّنه خـواطرَ تحاكي تجاربه وتعاطيه مع الأشياء.
وجاء فنّ المقالة في “رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء” على شكل مجموعة من 52 رسالة كتبتها الجماعة المجهولة المسماة إخوان الصفا، والتي ظهرت في مدينة البصرة العراقية في أواخر القرن الـ10 و بدايات القرن الـ11 الميلادي.
ولا ننسى بالتأكيد أحد أعظم كتب التراث العربي النقدي، المتمثل بـ “رسالة الغفران” للشاعر والفيلسوف السوري أبي العلاء المعرّي (القرن الـ11 الميلادي)، والتي تعدّ من أهم مصادر دراسة النقد الأدبي العربي القديم من خلال الموضوعات/ المقالات التي حوتها الرسالة، والتي أخذت طابع المسامرات والمحاورات والمناظرات بهدف التعبير عن نظرة الكاتب للدين والأدب والحياة بأسلوب نقدي أدبي استثنائي.
آراء في المقالة وأسبقيتها
ومن هنا، يذكر الكاتب والمفكّر العربي عباس محمود العقاد، في كتابه “ويسألونك” أن هذا الفنّ -بالصورة التي عرفها العرب “هو أقـدم فنون المقالـة فـي الآداب العالمية” كونه ظهر قبل ظهور مقالات الروّاد في أوروبا العصور الحديثة (مونتين وبيكون) كما سيأتي معنا، إلا أن الكاتب والناقد عز الدين إسماعيل يختلف مع رأي العقاد، إذ يقول في كتابه “الأدب وفنونه- دراسة ونقد” إن كلمة “المقال/ المقالة” ليسـت غريبة على اللغة العربية ولكنها من حيث دلالتها الفنية “تعد محدثـة في أدبنا العربي والحق أن تاريخ المقالة يرتبط بتـاريخ الصـحافة وهو تاريخ لا يرجع بناء إلى الوراء أكثر من قرن ونصف قـرن”.
على أية حال، إن لم يكن العرب قد عرفوا فن المقالة بمفهومه الحديث والمعاصر، فقد عرفوه كقالب لا يختلف عن قالب المقالة الحديث عبر أسلوب “الرسـالة” وغيره من الأساليب التي ذكرناها، وتناولوا من خلالها موضوعات أدبية واجتماعية وسياسية وفكرية، وخاطبوا عبرها طبقة من القرّاء والمثقفين في زمانهم.
المقالة في الأدب العربي الحديث
ظهرت المقالة، كفنّ من بين الفنون الأدبية عند العرب في العصر الحديث، في القرن الـ 19، وكان لاتصال الشعوب العربية بالغرب واطلاعها على آدابه دور مهم في ظهور هذا الفن. فالمقالة دخلت الآداب الغربية -الأوروبية- في أواخر القرن الـ16 الميلادي، ويكاد يجمع المؤرخون والنقّاد على أن ولادتها جاءت على يد كلّ من الكاتب الفرنسي “ميشيل دي مونتين” والفيلسوف والسياسي الإنكليزي “فرنسيس بيكون”، حيث اعتُبرا رائدا المقالة في الآداب الأوربية الحديثة.
ومما لا شك فيه أن ظهور الصحافة كان له الدور الرئيس في نهضة وانتشار هذا الفنّ الأدبي الخاص. فتاريخ المقالة في عصورنا الحديثة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الصحافة؛ إذ لم تشكّل المقالة جنساً أدبياً مستقلاً في الأدب العربي الحديث، وإنما اقترنت بالعمل الصحافي بالدرجة الأولى، لتخدم أغراضه عبر مختلف أشكال ومضامين النصوص الصحفية المتعارف عليها اليوم.
أطوار فن المقالة في الأدب العربي الحديث
وبما أن فن المقالة جاء مرتبطاً بالصحافة، وتطَـوّر على صفحاتها بوساطة أقلام كتّابها، يتوجّب علينا المرور على أهم المراحل التي مر بها حتى أصبح جنساً أدبياً له خصوصيته وجماليته وتأثيره.
- المرحلة الأولى: ويشمل مقالات الصحف العربية الأولى، وهي الصحف الرسمية التي أصدرتها الدولة/ الحكومة أو ساعدت في إصدارها. وكانت مصر وسوريا (بلاد الشام) السبّاقتين في هذه المرحلة التي استمرت منذ منتصف القرن الـ19 حتى قيام ثورة أحمد عرابي (1881)، وأشهر من كتب المقالة في هذه الحقبة رفاعة الطهطاوي وعبد الله أبو السعود وميخائيل عبد السيد، بالإضافة إلى السوري الدمشقي سليم عنجوري الذي أقام في مصر.
وفي سوريا، يعود أول عهد السوريين بالصحافة إلى عام 1865 حين كانت سوريا تحت حكم الدولة العثمانية، فصدرت صحيفة “سوريا” الحكومية، وكانت تُنشر باللغتين العربية والتركية إلا أنها توقفت بعد خروج العثمانيين من البلاد إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى. وعلى صعيد الصحف الخاصة كانت صحيفة “الشهباء” التي أسسها هاشم العطار وعمل على تحريرها المفكر عبد الرحمن الكواكبي عام 1877 في مدينة حلب من أوائل الصحف الخاصة.
كانت المقالة في تلك الفترة بدائية وفجّة، وأسلوبها أقرب إلى النثر وغلب عليه أسلوب السجع.
- المرحلة الثانية: وشهدت صحفاً جديدة معظمها مستقل وغير مرتبط بالدولة. أسس معظم تلك الصحف المهاجرون السوريون في مصر، مثل صحيفة “الأهرام” و”مصر” وغيرها. وأشهر من كتب المقالة في تلك الفترة أديب إسحاق وسليم النقاش وعبد الله النديم وإبراهيم المويلحي. وقد امتازت مقالاتهم بالتحرر من قيود السجع في الأسلوب وغلبت عليها الموضوعات الوطنية والاجتماعية.
وشهدت سوريا في تلك المرحلة ظهور عشرات الصحف الجديدة، من بينها صحيفة نسائية تعني بحقوق المرأة في الشرق الأوسط كانت تسمّى “العروس” عام 1910 على يد ماري عجمي وهي شاعرة وصحفية سورية، وبلغ عدد الدوريات المطبوعة عام 1920، 31 مجلة و24 جريدة تنشر في كل أنحاء سوريا.
- المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي برزت فيها الصحف التي استندت مقالاتها على المدارس الصحفية الحديثة المتزامنة مع تأسيس الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية التي شهدتها المنطقة العربية وخصوصاً في بلاد الشام ومصر.
- المرحلة الرابعة: وهي مرحلة الصحافة الحديثة االتي بدأت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وما تلاها من أحداث، وامتازت المقالة في هذ الطور بالتركيز والدقة العلمية والميل إلى بث وإشاعة الثقافة العامة وأسلوبها هو ذاته الأسلوب الحديث الذي اشتهر به أقطاب الأدب العربي الحديث أمثال طه حسين وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وأحمد أمين والمازني والعقاد وغيرهم.
وشـهدت هذه المرحلة تنامي الـوعي الاجتماعي والإبداع الأدبي، فتعددت فنون الكتابة الصحفية وأصبحت المقالة فيـها أداة التعبير في التأليف والترجمة والإذاعة والصحافة وشتى ألـوان وصنوف التدوين والتحرير وصولاً إلى هذا اليوم.
*تلفزيون سوريا