أحمد طلب الناصر: عن ترسيخ ثقافة “الحاكم- الوطن” في مناهج كتب التاريخ

0

التاريخ يُدوّن الأعمال لا النيّات. وعلى هذا الأساس نلاحظ أن علم التاريخ غالباً ما يستقي معلوماته من الأحداث والوقائع السياسية/العسكرية بالدرجة الأولى وبنسبة لا تقلّ عن ثمانين في المئة، في صفحات كتبه ومجلداته، أما العشرون المتبقيّة فتتناول دراسة كافة الجوانب الاجتماعية الأخرى.

في المؤسسات التعليمية التابعة لحكومات وأنظمة المجتمعات العربية عموماً، كما هي الحال عند بقية المجتمعات الأخرى بالطبع؛ أولت مادة التاريخ اهتمامها الرئيس بمواضيع تشتمل على المعارك والحروب وأسبابها المباشرة وغير المباشرة، وكذلك على التحالفات والمعاهدات السياسية والعسكرية؛ لتلتفت بعدها إلى الفصول والفقرات المرتبطة ببقية الأنشطة الإنسانية، من فكر وثقافة وعمران وغيرها.

إلا أن الفرق حقيقةً بين تاريخنا وتاريخ غالبية دول العالم الأخرى، وخصوصاً دول العالم الأول والأنظمة “الديمقراطية”، يرتبط بنمط ومنهجية تدريس المادة التاريخية التي غالباً ما تصبّ، داخل مؤسساتنا التعليمية، في خانة ترسيخ القادة والأنظمة الحاكمة عبر التاريخ بوصفها انعكاساً لصورة الأنظمة القائمة حالياً، والمسلّطة على عقول وعواطف ورقاب الشعوب التي تحكمها. إذ يرتبط مصير الزعماء عندنا بمصير الأوطان التي تربّعت على عروشها، بخلاف المنهجية المتّبعة لدى مجتمعات ما يُطلق عليها “دول العالم الحرّ”، والتي تعزّز الشعور بالانتماء الاجتماعي والثقافي والسياسي للأوطان انطلاقاً من مبدأ المواطنة والتعددية، بمعزل عن شكل وجوهر الأنظمة المتبدّلة وفق رغبة الشعوب عبر صناديق الاقتراع.

قبل الدخول إلى صلب الفكرة المنشودة، نضرب مثالاً لنجري من خلاله مقارنة ًسريعة بين النمطين وتوضيح الفرق بينهما..

في كتب التاريخ التي درسناها، غالباً ما كان يُطرح سؤال وفق الصيغة التالية: “كيف تمكّن (الأمير- الملك- الرئيس..) فلان، من توطيد حكمه؟”. أو بهذا الشكل: “تحدث عن الأعمال الداخلية أو الخارجية للملك فلان أو الخليفة الفلاني أو الرئيس فلان الفلاني”.

أما في كتاب التاريخ المدرَّس في فرنسا على سبيل المثال، نشاهد معظم الأسئلة تُصاغ هكذا: “عدد أسباب مشاركة فرنسا في حرب الاستقلال الأميركية”. أو: “تحدث عن السياسة الفرنسية في الجزائر عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.. أو بين عامي كذا وكذا”. وفي السؤالين المطروحين لا يهم أبداً أن يذكر اسم الملك أو الرئيس الفرنسي الذي كان يحكم في تلك الفترة بقدر ما يهم ذكر اسم الدولة وانعكاسات الحدث عليها.

الأمثلة التي تبيّن البون الشاسع بين المنهجيتين كثيرة، وإن حدث وتقاطعت المنهجيتان في التركيز على إنجازات زعيم كل منهما، فسنجد اختلافاً بين من يصبّ تلك الإنجازات في خانة الزعيم الشخصية، كما هي الحال لدينا، وبين من يصبّها في خانة الشعب والوطن ومستقبلهما.

لن نكمل الحديث في المقارنات بينهما، وإنما سنتناول المفاهيم التي شكلتها وما زالت تشكّلها دراسة التاريخ داخل أدمغة شعوبنا العربية وشبيهاتها من الشعوب الأخرى، لتكوّن منها في نهاية المطاف كتلاً جماهيرية تربط انتماءها الوطني بالانتماء للحاكم الفرد والنظام الشمولي، ولتحوّل جزءاً كبيراً من مثقفيها ومنظّريها إلى أبواق تجسّد حالة تقمّص الحاكم بالوطن وبالعكس، ما أفرز أخيراً مفهوم (الدولة- الحاكم) كما هي الحال بالطبع في مفهوم “سوريا- الأسد“.

درّسونا في كتب التاريخ، التي تضمّ مختلف العصور التاريخية، أن الحضارات والدول من صُنع الحكام والملوك والأباطرة بدءاً من -على سبيل المثال وليس الحصر- “فراعنة مصر” و”سرجون الأكادي” قبل أكثر من أربعة آلاف عام، مروراً بـ “أبي العباس السفاح” ثم “محمد علي باشا” وصولاً إلى “القائد الخالد المؤسس” حافظ الأسد “باني سوريا الحديثة”!

علّمونا أن إنجازاتهم “الفردية” هي التي أنشأت الحضارات وصنعت الشعوب وأدخلتهم إلى صفحات التاريخ المكتوب؛ وأن الدول وشعوبها تعرضت للتهميش والفناء بمجرد نهاية حياة أولئك (الحُكّام- الدول). فبرعنا بفنون اللّطم والبكاء على الأطلال، ورحنا نندب حظّنا العاثر على فقدانهم، وبتنا نتغنّى بأمجاد وإنجازات “حمورابي” والحَجاج وأبي جعفر المنصور والظاهر بيبرس، وندعي من الله في صلواتنا أن يعيد لنا “خوفو” وصلاح الدين وصقر قريش ويوسف بن تاشفين!

درّسونا في تلك الكتب أن الحاكم هو المنتصر على الدوام في كل المعارك. وإن خسر إحداها، فالسبب يعود بالتأكيد لعدم تقيّد الرعيّة بنصائحه وأوامره أو لتعرضه لمؤامرة قذرة وخيانة حقيرة! ودرسونا أيضاً أنه فاتح الأمصار، وفارِض المعاهدات والإتاوات ودنانير الجزية على الأمم المهزومة، وباني المدن والقلاع والحصون والقصور والمساجد والكنائس، ورافع المدارس والمكتبات، ومكرّم العلم والعلماء، ومقرّب الحكماء والفقهاء والفلاسفة، وحامي الدين والدولة.

أبلغونا أن جميع الانتفاضات والثورات المناهضة للحكام والسلاطين -وغالباً ما كانوا يطلقون عليها مسمى “حركات” في كتب التاريخ- هي من صُنع الأشرار والكفّار والمتآمرين على وحدة الدولة وسيادتها ونظامها “المؤمن” والمخلص لله وللشعب، لذلك باءت جميعها بالفشل والهزيمة وتمّ القضاء على أصحابها قضاءً مبرماً ونالوا “القصاص العادل”. في حين لم تذكر صفحات تاريخنا انتصار معارضٍ على حاكمٍ قَط، ولم تذكر إن كان أحدهم مظلوماً أو محقّاً في أحد مطالبه؛ كُلّهم على باطل، ومنقلبون، وناكرو جميل، ومخرّبون، وأعداء الدين والدولة!

جميعهم مدّعون وخونة باستثناء من تمكّن من انتزاع السلطة والتربّع فوق العرش، فعندها سيصبح هو صاحب “الشرعية” الجديد، وله الحقّ في القضاء على السابقين إن طالبوا بشرعيتهم المسلوبة، وفي التعامل معهم كخارجين عن (القانون- الدولة- هو).

في كتب تاريخهم نجدهم يتغنّون بـ “مارتن لوثر كينغ” و”آرنستو تشي غيفارا” و”لوركا” كشهداء ثاروا على أنظمتهم الفاسدة.

في كتب تاريخنا، من حق الشعوب أن تثور وتنتفض، فقط، على أنظمة المحتلّ والمستعمر “الأجنبي”، فتكون بذلك شعوباً مناضلة لأجل الحرية والكرامة والاستقلال، وسيُدوَّن في التاريخ اسم كل من يلقى حتفه في هذا النضال “شهيداً”.

أما ما يتعلّق بالأنظمة، فلكي تُثبت شعوبنا إخلاصها ووطنيتها وتُدوَّن أسماء أبنائها بين الشهداء؛ فمن الواجب عليها افتداء الحاكم بروحها، وتمجيد اسمه، ومبايعته بـ “الروح والدم”، ونصرته ظالماً أو أشدّ ظلماً، وإعانته على ظلم كل من يعارضه إن فكّر الأخير في التعرّض لقدسيته، وإحراق البلد وأهلها لأجل راحته وسلامة عرشه.. فهو البلد، وهو الوالد والولد “إلى الأبد”.

*تلفزيون سوريا