أحمد طالب الأشقر: الدكتاتوريات الرشيدة و الاستبداد العادل هل هي مصيرنا ؟!

0

دراسة امكانية تطبيق انموذج ” لي كوان يو” في الشرق العربي

إن معظم دول الشرق الأوسط وخاصة في الشرق العربي، تعاني منذ عقود من الصراعات والفشل في تحقيق عقد
اجتماعي متوافق عليه بين الحاكم والشعب، جعل المنطقة تغرق بدوامة الفقر و التخلف والاستبداد الظالم؛ ومع ذلك هناك
انموذجات للنجاح في التحول إلى دول أكثر رخاء وتنمية، نماذج ناجحة للحكم، متقاربة ومناسبة للظروف التي يعيشها
الشرق الأوسط.
ومن حيث أن جميع الطرق للحكم الرشيد قد سُدت وقد أغرقت المنطقة في الديكتاتوريات، يقدم لنا المستبد السنغافوري
العادل “لي كوان يو” انموذجاً واقعياً للحكم ربما يكون قابلاً للتحقيق.

من هو “لي كوان يو”

لي كوان يو .. هو مؤسس سنغافورة الحديثة، والذي قام بتحويل بلاده من منطقة تعاني ركود مابعد الاستعمار إلى قوة
اقتصادية ذات حضور دولي، من خلال السياسات الذكية والرؤى الحكيمة .. كان لـ لي كوان يو دور فعال في تحويل
سنغافورة من “جزيرة” صغيرة إلى دولة مدنية طموحة.
لقد تمت دراسة نهجه في الحوكمة والتنمية المجتمعية من قبل القادة السياسيين والمختصين في الاقتصاد والاجتماع
والإدارة من جميع أنحاء العالم.

يعتمد نموذجه للمجتمع المتقدم على البراغماتية والنظام الاجتماعي المعقد؛
كانت رؤيته لنجاح سنغافورة هو إنشاء مجتمع يتصف بالكفاءة والانسجام، حيث الشعور القوي والفخر بالهوية الوطنية
والانتماء، بالإضافة لتمكين المواطنين بالتعليم والفرص الحقيقية لاثبات جدارتهم كمواطنين صالحين.
تم تبني هذا النموذج المميز في الحكم من قبل عدد من البلدان، حيث جُمع بين الشكل المطلوب للسيطرة على دفة الحكم
بشكل فردي وبعيد عن النظام الديمقراطي من جهة، وبين السعي لتبني طرق وأساليب التنمية وتحقيق الرفاه والتقدم من
جهة أخرى.

نهج وأسلوب لي كوان يو للتحول المجتمعي

يعد تحول سنغافورة من جزيرة صغيرة متخلفة إلى دولة مدنية حديثة ومزدهرة دليلاً على قيادة مستبدة حكيمة؛ كان لي
كوان يو يعتقد أن الاقتصاد القوي سيوفر الموارد اللازمة لبناء مجتمع أفضل، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم والبنية
التحتية؛ بالإضافة إلى التنمية الاقتصادية، ركز لي بشدة على التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية؛ لقد أدرك أهمية بناء
الشعور الوطني و الهوية المشتركة بين التجمعات الأثنية المتنوعة في سنغافورة، والتي شملت عدة أعراق كـ الصينية
والماليزية و الهندية و الأوروبية وديانات كـ الإسلام والهندوسية والبوذية والمسيحية وغيرها.

ولتحقيق ذلك، نفذ “لي” سياسات عزّزت الانسجام العرقي والتعددية الثقافية، مثل التدريس الإلزامي للغة الإنجليزية في
المدارس وتعزيز مبدأ ثنائية اللغة. كما أدخل نظام “الحصص العرقية” للإسكان العام، مما يضمن عدم هيمنة أي مجموعة
عرقية واحدة على أي حي معين؛ كان نهج لي للتحول المجتمعي عملياً ومركّزاً ومستنداً إلى فهم عميق للتحديات
الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه سنغافورة.

كما أدرك “لي كوان يو” أهمية جذب الاستثمار الأجنبي وخلق بيئة صديقة للأعمال؛ حيث قام بتنفيذ سياسات لتشجيع
الشركات الأجنبية على الاستثمار في سنغافورة، وأنشأ إطارات تنظيمية جعل من السهل على الشركات العمل في البلاد
بشكل أكثر ديناميكة بعيداً عن بيروقراطيات المكاتب والإدارات، وهذا هو بالضبط السر في التحول السريع نحو التنمية
والتقدم.
ومع ذلك، تم انتقاده بسبب أسلوبه الاستبدادي في الحكم والقيود المفروضة على حرية التعبير ووسائل الإعلام؛ كما واجه
تحديات في إدارة التنوع العرقي والديني في البلاد، لا سيما في أعقاب أعمال الشغب العرقية عام 1969.

ما الذي يمكن تعلمه من نموذج “لي كوان يو” ؟

يمكن أن يوفر فحص نجاحات وإخفاقات نموذج “كوان يو” رؤى قيمة للمجتمعات العربية التي تتطلع إلى تغيير نفسها؛ في
حين أن هناك بالتأكيد اختلافات بينها، وهناك أيضًا العديد من أوجه التشابه؛ كانت أحد الدروس المهمة التي يمكن أن
تتعلمها المجتمعات العربية من نموذج لي كوان يو هو أهمية وجود رؤية واضحة ومحددة جيدا للمستقبل.

تطورت لدى الزعيم السنغافوري – المستبد العادل – رؤية جريئة لأمته وعمل بلا كلل لتحقيقها؛ لقد علم أهمية الاستثمار
في التعليم وتنمية الموارد البشرية؛ حيث تشتهر سنغافورة بامتلاكها أحد أفضل أنظمة التعليم في العالم، وقد ساعد ذلك في
دفع النمو الاقتصادي للبلاد. أيضاً من الدروس المهمة، هي أهمية الحكومة القوية والنزيهة؛ حيث تشتهر الحكومة
السنغافورية بأنها حكومة شبه خالية من الفساد، لذلك تعتبر سنغافورة ” الأقل ” على مؤشر الفساد العالمي، الأمر الذي
ساعد على بناء الثقة بين الحكومة والشعب، وساهم في الاستقرار السياسي فيها .. وهذه الأخيرة تحتها خطين! .

تحديات تنفيذ مثل هذا النموذج في الشرق العربي الكبير

إن تنفيذ أي نموذج جديد في منطقة متنوعة ومعقدة مثل الشرق الأوسط سيكون تحدياً حقيقياً دوماً لعوامل عديدة؛ حيث
سيكون أحد التحديات الرئيسية هو الاختلافات الثقافية والدينية بين المنطقتين.
يعد المسلمون السنة في الشرق الأوسط هم غالبية مقارنة بالأديان والطوائف الأخرى، في حين أن سنغافورة لديها مجتمع
متعدد الأديان والثقافات على حد سواء؛ وهذا يعني أن أي نموذج سيتم تنفيذه يجب أن يُوافق عليه من قبل النافذين في
المجتمع الدولي، و يأخذ في الاعتبار حساسية وجود أقليات دينية واثنية في  المنطقة.

التحدي الآخر هو المشهد السياسي للشرق الأوسط، فهو يعتبر منطقة منعدمة الاستقرار، والصراع فيها متجدد بين فينة
وأخرى، مما يجعل تنفيذ أي نوع من النماذج أمرا صعبا، هذا كله في كفة، وفي كفة أخرى الأنظمة القمعية العنيفة
المستبدة، والتي قد لا تتقبل التجديد ولاترحب بالتنوع.
بالإضافة إلى أن معضلة قيود البنية التحتية والموارد الشحيحة والمسلوبة تارة والإرادة والإدارة المنعدمة تارة أخرى،
تشكل تحديًا لتنفيذ النموذج السنغافوري.

ناهيك على أن سنغافورة دولة صغيرة، في حين أن الشرق الأوسط منطقة متنوعة تمتد عبر بلدان متعددة، ولكل منها
تحدياتها وقيودها المميزة لها عن الأخرى. بالتأكيد تحتاج المنطقة إلى حلول مبتكرة لمواجهة تحدياتها، ويمكن أن يوفر
النموذج السنغفوري نقطة انطلاق قيّمة للدراسة و للمناقشة حال توفرت الرغبة والإرادة.

أمثلة على التنفيذ العملي لنموذج “كوان يو” في الشرق الأوسط

على الرغم من جميع التحديات التي تحدثنا عنها آنفاً، إلى أنّ هناك بلدان في ذات المنطقة تعيش فترة استقرار ممتدة منذ
عقود؛ والتي خطت خطوات كبيرة في التنمية الاقتصادية و المدنية والتنويع في مصادر الدخل والحصول على بنية تعليمة
متطورة لمواطنيها؛ كما كانت تترافق هذه الخطوات بين فينة وأخرى بالرغبة بالمزيد من الحريات والانفتاح والمطالبة
بحقوق الإنسان

من الأمثلة على ذلك هي الإمارات العربية المتحدة، نفذت دولة الإمارات العديد من السياسات المشابهة لسياسات
سنغافورة، مثل خلق نظام تعليمي معزز، والاستثمار بكثافة في التكنولوجيا، وخلق بيئة صديقة للأعمال لجذب الاستثمار
الأجنبي؛ بالإضافة إلى ذلك نفذت مدينة دبي سياسات مماثلة لسياسات سنغافورة من حيث خلق بيئة آمنة ونظيفة، وتعزيز
السياحة والتجارة الدولية؛ إن نجاح دبي في جذب الاستثمار الأجنبي والتحول إلى مركز للأعمال والسياحة في المنطقة هو
شهادة على فعالية نموذج لي كوان يو في الشرق الأوسط.

مثال آخر هو قطر وعلى غرار سنغافورة، ركزت قطر على تطوير اقتصاد قائم على المعرفة والتنوع؛ لقد استثمرت
بكثافة في البحث والتطوير، وأنشأت العديد من الجامعات والمراكز البحثية ذات المستوى العالمي لجذب الباحثين والطلاب
الموهوبين من جميع أنحاء العالم.

توضح هذه الأمثلة أن تنفيذ النموذج السنغافوري في الشرق الأوسط ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى رغبة جامحة وإحساس
عارم بالرغبة بالتغيير، يحمل لواء هذا التغيير المثقفون والسياسيون وقادة الرأي والأكاديميون الغيورون، متمثلين
بنجاحات الدول المجاورة ممسكين على أيدي القادة الحاليين بالنصح أو بالعزيمة حتى نزعهم عنوة إلى القيادة العادلة أو
الخروج من المشهد السياسي والاقتصادي وأن يتركوا الدفة لربان أخر قادر احداث التحول المنشود.

الخلاصة
من الممكن تطبيق نموذج لي كوان يو – الديكتاتور الرشيد – الذي حول سنغافورة من دولة فقيرة ومتخلفة إلى قوة
اقتصادية مزدهرة، في حين يتم التركيز على القيادة القوية و التعليم والابتكار في ظل استبداد عادل ونموذج حوكمة فريد؛
ومن المهم أيضاً ملاحظة أنه على الرغم من أن النموذج قد يكون فعالاً، إلا أنه ربما لا يناسب الجميع؛ لأن المجتمعات

العربية تتمتع بسياقاتها الثقافية والتاريخية والسياسية المختلفة والمتباينة أحيانا و التي يجب أخذها في عين الاعتبار عند
التطبيق؛ علما أن تنفيذ مثل هذا النموذج سيتطلب إرادة قوية والتزاماً من القادة، بالإضافة إلى دعم من عامة الناس.

*خاص بالموقع